قوله تعالى:{ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} .
ذكر غير واحد من المفسرين: أن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله{ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [ الحج: 60] أي ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته ،ومن علامات قدرته الباهرة: أنه يولج الليل في النهار ،ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ،ومصرفهما ،فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار ،وأنه سميع لما يقولون ،بصير بما يفعلون: أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما ،والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق: أي الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده ،وأَن كل ما يدعى إلاهاً غيره باطل وكفر ،ووبال على صاحبه ،وأنه جل وعلا هو العلي الكبير ،الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علواً كبيراً .
وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا .بقوله{ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ} ، ولآخره بقوله{ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} .
والأظهر عندي: أن الإشارة في قوله ذلك: راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم ،وأنها ترجع لقوله{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [ الحج: 56] إلى ما ذكره من نصرة المظلوم: أي ذلك المذكور من كون الملك له وحده ،يوم القيامة ،وأنه الحاكم وحده بين خلقه ،وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين ،والناصر من بغى عليه من عباده المؤمنين ،بسبب أنه القادر على كل شيء ،ومن أدلة ذلك: أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا .وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان ،مبيناً أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى ،وخلق الناس{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [ لقمان: 28] .
ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث ،فقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} [ لقمان: 29-30] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته ،استدل بها على قدرته في الحج ،وفي لقمان .وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان:
الأول: وهو قول الأكثر: من أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر ،إنما هو بإدخال جزء منه فيه ،وبذلك يطول النهار في الصيف ،لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء: لأنه أولج فيه شيء من النهار ،وهذا من أدلة قدرته الكاملة .
المعنى الثاني: هو أن إيلاج أحدهما في الآخر ،هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك ،بغيبوبة الشمس .وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج ،ويظلم بفقده .ذكر هذا الوجه الزمخشري ،وكأنه يميل إليه والأول أظهر ،وأكثر قائلاً ،والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قرأه حفص وحمزة والكسائي: يدعون بالياء التحتية ،وقرأه الباقون: بتاء الخطاب الفوقية .