{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .{أَمْ} ،في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية ،واستفهام الإنكار معًا ،والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي:
والمعنى: بل{تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ،أي: لا تعتقد ذلك ولا تظنّه ،فإنهم لا يسمعون الحقّ ولا يعقلونه ،أي: لا يدركونه بعقولهم:{إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ} ،أي: ما هم إلا كالأنعام ،التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه ،{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام ،أي: أبعد عن فهم الحقّ وإدراكه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ،قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا أضلّ من الأنعام ؟
قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ،وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ،وتطلب ما ينفعها ،وتجتنب ما يضرّها ،وتهتدي لمراعيها ومشاربها ،وهؤلاء لا ينقادون لربّهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم ،ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ،ولا يتّقون العقاب الذي هو أشدّ المضار والمهالك ،ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي ،اه منه .
وإذا علمت ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة ،فاعلم أن اللَّه بيّنه في غير الموضع ،كقوله تعالى في سورة «الأعراف »:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسمعونَ بها أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أضلُّ أولئك هُمُ المفلحونَ} [ الأعراف: 179] ،وقوله تعالى في «البقرة »:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [ البقرة: 171] .