وما ذكر جلَّ وعلا في الآية الأخيرة من قوله:{قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} الآية ،جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر ؛كقوله تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ} [ النحل: 102] الآية ،وقوله تعالى:{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [ البقرة: 97] الآية ،وقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} [ الشعراء: 192-195] ،وقوله تعالى:{وَلاَ تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وقوله تعالى:{لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [ القيامة: 16-19] ،وقوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ} [ الحاقة: 38-43] ،وقوله تعالى:{تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى} [ طه: 4] ،إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا:{الَّذِي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} ،أي: ومن يعلم السر ،فلا شكّ أنه يعلم الجهر .
ومن الآيات الدالَّة على ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة ،من كونه تعالى يعلم السرّ في السماوات والأرض ،قوله تعالى:{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى} [ طه: 7] ،وقوله تعالى:{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [ الملك: 13] ،وقوله تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [ التوبة: 78] ،وقوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [ الزخرف: 80] ،وقوله تعالى:{ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [ السجدة: 6] ،وقوله تعالى:{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [ البقرة: 235] الآية ،وقوله تعالى:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} [ النمل: 75] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ،قال فيه ابن كثير: هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ،وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ،وأن حلمه عظيم ،وأن من تاب إليه تاب عليه ،فهؤلاء مع كذبهم ،وافترائهم ،وفجورهم ،وبهتانهم ،وكفرهم ،وعنادهم ،وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عمّا هم فيه إلى الإسلام والهدى ؛كما قال تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ واحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [ المائدة: 73-74] ،وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [ البروج: 10] .
قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود ،قتلوا أولياءه ،وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة ،انتهى كلام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى ،وما ذكره واضح .
والآيات الدالَّة على مثله كثيرة ؛كقوله تعالى:{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [ الأنفال: 38] ،وقوله تعالى:{وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً} [ طه: 82] ،إلى غير ذلك من الآيات .