قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} .
اعلم أن التحقيق إن شاء اللَّه ،أن اللام في قوله:{فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} ،لام التعليل المعروفة بلام كي ،وذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز ،ويدلّ على ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [ الإنسان: 30] و [ التكوير: 29] .
وإيضاح ذلك أن قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ}[ الإنسان: 30]و [ التكوير: 29] ،صريح في أن اللَّه تعالى يصرف مشيئة العبد وقدرته بمشيئته جلَّ وعلا ،إلى ما سبق به علمه ،وقد صرف مشيئة فرعون ،وقومه بمشيئته جلَّ وعلا ،إلى التقاطهم موسى ؛ليجعله لهم عدوًّا وحزنًا ،فكأنه يقول: قدرنا عليهم التقاطه بمشيئتنا ليكون لهم عدوًّا وحزنًا ،وهذا معنى واضح ،لا لبس فيه ولا إشكال ،كما ترى .
وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية: ولكن إذا نظر إلى معنى السياق ،فإنه تبقى اللام للتعليل ؛لأن معناه: أن اللَّه تعالى قيّضهم لالتقاطه ،ليجعله عدوًّا لهم وحزنًا ،فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ،انتهى محل الغرض من كلامه .وهذا المعنى هو التحقيق في الآية إن شاء اللَّه تعالى ،ويدلّ عليه قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} ،كما بيّنا وجهه آنفًا .
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يقوله كثير من المفسّرين ،وينشدون له الشواهد من أن اللام في قوله:{لِيَكُونَ} ،لام العاقبة والصيرورة خلاف الصواب ،وأن ما يقوله البيانيّون من أن اللام في قوله:{لِيَكُونَ} فيها استعارة تبعية ،في متعلّق معنى الحرف ،خلاف الصواب أيضًا .
وإيضاح مراد البيانيين بذلك ،هو أن من أنواع تقسيمهم لما يسمّونه الاستعارة ،التي هي عندهم مجاز علاقته المشابهة أنهم يقسمونها إلى استعارة أصلية ،واستعارة تبعية ،ومرادهم بالاستعارة الأصلية الاستعارة في أسماء الأجناس الجامدة والمصادر ،ومرادهم باستعارة التبعية قسمان:
أحدهما: الاستعارة في المشتقّات ،كاسم الفاعل والفعل .
والثاني: الاستعارة في متعلّق معنى الحرف ،وهو المقصود بالبيان .
فمثال الاستعارة الأصلية عندهم: رأيت أسدًا على فرسه ،ففي لفظة أسد في هذا المثال ،استعارة أصلية تصريحية عندهم ،فإنه أراد تشبيه الرجل الشجاع بالأسد لعلاقة الشجاعة ،فحذف المشبّه الذي هو الرجل الشجاع ،وصرّح بالمشبّه به الذي هو الأسد ،على سبيل الاستعارة التصريحية ،وصارت أصلية ؛لأن الأسد اسم جنس جامد .
ومثال الاستعارة التبعية في المشتقّ عندهم قولك: الحال ناطقة بكذا ،فالمراد عندهم: تشبيه دلالة الحال بالنطق بجامع الفهم ،والإدراك بسبب كل منهما ،فحذف الدلالة التي هي المشبّه ،وصرّح بالنطق الذي هو المشبّه به على سبيل الاستعارة التصريحية ،واشتقّ من النطق اسم الفاعل الذي هو ناطقة ،فجرت الاستعارة التبعية في اسم الفاعل الذي هو ناطقة ،وإنما قيل لها تبعية ؛لأنها إنما جرت فيه تبعًا لجريانها في المصدر ،الذي هو النطق ؛لأن المشتق تابع للمشتق منه ،ولا يمكن فهمه بدون فهمه ،وهذا التوجيه أقرب من غيره مما يذكرونه من توجيه ما ذكر .
ومثال الاستعارة التبعية عندهم في متعلق معنى الحرف ،في زعمهم هذه الآية الكريمة ،قالوا: اللام فيها كلفظ الأسد في المثال الأوّل ،فإنه أطلق على غير الأسد لمشابهة بينهما ،قالوا: وكذلك اللام أصلها موضوعة للدلالة على العلّة الغائية ،وعلّة الشيء الغائية ،هي ما يحمل على تحصيله ليحصل بعد حصوله ،قالوا: والعلّة الغائية للالتقاط في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ} ،هي المحبة والنفع والتبنّي ،أي: اتّخاذهم موسى ولدًا ،كما صرّحوا بأن هذا هو الباعث لهم على التقاطه وتربيته ،في