قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} .
التحقيق أن الضمير في قوله: وإنه راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ،ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعنى قوله:{لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم ،والسنة المتواترة ،هو أن نزول عيسى في آخر الزمان ،حيا علم للساعة أي علامة لقرب مجيئها لأنه من أشراطها الدالة على قربها .
وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى ،جار على أمرين ،كلاهما أسلوب عربي معروف .
أحدهما: أن نزول عيسى المذكور ،لما كان علامة لقربها ،كانت تلك العلامة ،سبباً لعلم قربها ،فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .
وإطلاق المسبب وإرادة السبب ،أسلوب عربي معروف في القرآن ،وفي كلام العرب .
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً} [ غافر: 13] .
فالرزق مسبب عن المطر والمطر سببه ،فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .
ومعلوم أن البلاغيين ،ومن وافقهم ،يزعمون أن مثل ذلك ،من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ،وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .
والثاني من الأمرين أن غاية ما في ذلك ،أن الكلام على حذف مضاف ،والتقدير ،وإنه لذو علم للساعة ،أي وإنه لصاحب إعلام الناس ،بقرب مجيئها ،لكونه علامة لذلك ،وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ،كثير في القرآن ،وفي كلام العرب ،وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
وما يلي المضاف يأت خلفا *** عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل أي ذو كرم وذو عدل كما قال تعالى:{وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} [ الطلاق: 2] ،وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
ونعتوا بمصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ،ففي قوله تعالى سورة النساء:{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [ النساء: 159] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ،وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه ،وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ،من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: قبل موته راجع إلى الكتابي ،أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .
فالجواب أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى ،يجب المصير إليه ،دون القول الآخر ،لأنه أرجح منه من أربعة أوجه:
الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ،وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .
والقول الآخر بخلاف ذلك .
وإيضاح هذا أن الله تعالى قال:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} ثم قال تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ} أي عيسى ،{وَمَا صَلَبُوهُ} أي عيسى{وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي عيسى{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي عيسى{لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي عيسى{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [ النساء: 157] أي عيسى ،{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي عيسى{بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ} [ النساء: 157 -158] أي عيسى{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى{قَبْلَ مَوْتِهِ} أي عيسى{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [ النساء: 159] أي يكون هو ،أي عيسى عليهم شهيداً .
فهذا السياق القرآني الذي ترى ،ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه ،في أن الضمير في قوله قبل موته ،راجع إلى عيسى .
الوجه الثاني: من مرجحات هذا القول ،أنه على هذا القول الصحيح ،فمفسر الضمير ،ملفوظ مصرح به ،في قوله تعالى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [ النساء: 157] .
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً ،بل هو مقدر تقديره: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ،أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .
ومما لا شك فيه ،أن ما لا يحتاج إلى تقدير ،أرجح وأولى ،مما يحتاج إلى تقدير .
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح ،أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ،وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً .
ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .
قال ابن كثير في تفسيره ،بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه: وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا ه .
وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة ،لأنها قطعية وهو صادق في ذلك .
وقال ابن كثير ،في تفسير آية الزخرف هذه ما نصه:
وقد تواترت الأحاديث ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،«أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إمَاماً عَادِلاً وَحَكماً مُقْسِطاً » ا ه منه .
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .
وأما القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن ،ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .
الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح ،واضح لا إشكال فيه ،ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر ،فهو مشكل لا يكاد يصدق ،إلا مع تخصيص ،والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس ،وغيره ،ظاهرة البعد والسقوط لأنه على القول بأن الضمير في قوله قبل موته راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء ،ولا حاجة إلى تأويل ،ولا إلى تخصيص .
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ،كالذي يسقط من عال إلى أسفل ،والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل والذي يموت في نومه ونحو ذلك ،فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع ،من أهل الكتاب ،إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن ،إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .
وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب فقال إن رأسه يتكلم ،بالإيمان بعيسى ،وأن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي ،لا يخفى بعده وسقوطه ،وأنه لا دليل ألبتة عليه كما ترى .
وبهذا كله تعلم ،أن الضمير في قوله{قَبْلَ مَوْتِهِ} [ النساء: 159] ،راجع إلى عيسى ،وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} [ الزخرف: 61] كما ذكرنا .
فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ،ويعتقدون مثل ما يعتقده ،ضلال اليهود والنصارى ،ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} [ آل عمران: 55] وقوله{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [ المائدة: 117] .
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين ألبتة على أن عيسى قد توفي فعلاً .
أما قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه:
الأول: أن قوله:{مُتَوَفّيكَ} حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص ،والعرب تقول: توفي فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص .
فمعنى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] في الوضع اللغوي أي حائزك إلي ،كاملاً بروحك وجسمك .
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب .
الأول: هو تقديم الحقيقة العرفية ،وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ،وهو المقرر في أصول مالك إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .
وإلى تقديم الحقيقة العرفية ،على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعودي بقوله: واللفظ محمول على الشرعي *** إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب *** بحث عن المجاز في الذي انتخب
المذهب الثاني: هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية وإن ترجحت بعرف الاستعمال ،فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .
وهذا القول مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
المذهب الثالث: أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ،ولا اللغوية على العرفية ،بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ،فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ،لاحتمال هذه واحتمال تلك .
وهذا اختيار ابن السبكي ،ومن وافقه ،وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعودي بقوله:
ومذهب النعمان عكس ما مضى *** والقول بالإجمال فيه مرتضى
وإذا علمت هذا ،فاعلم أنه على المذهب الأول ،الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية ،على العرفية ،فإن قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ،ولا يدل على الموت أصلاً ،كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .
وأما على المذهب الثاني: وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ،فإن لفظ التوفي حينئذ ،يدل في الجملة على الموت .
ولكن سترى إن شاء الله ،أنه وإن دل على ذلك في الجملة ،لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلاً .
وقد ذكرنا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب ،عن آيات الكتاب ،في سورة آل عمران ،وجه عدم دلالة الآية ،على موت عيسى فعلاً ،أعني قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] فقلنا ما نصه: والجواب عن هذا ،من ثلاثة أوجه:
الأول أن قوله تعالى:{مُتَوَفّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت ،ولا يدل على كونه قد مضى .
وأما عطفه ورافعك إلى ،على قوله: متوفيك ،فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي ،على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ،وإنما تقتضي مطلق التشريك .
وقد ادعى السيرافي والسهيلي ،إجماع النحاة على ذلك ،وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق خلافاً لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال لم أجده في كتابه .
وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أبدأ بما بدأ الله به » يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .
وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ،فكذلك لا تقتضي المنع منهما .
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} [ البقرة: 158] الآية بدليل الحديث المتقدم .
وقد يكون المعطوف بها مرتباً كقول حسان:
* هجوت محمداً وأجبت عنه *
على رواية الواو .
وقد يراد بها المعية كقوله:{فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [ العنكبوت: 15] وقوله{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [ القيامة: 9] ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .
الوجه الثاني: أن معنى{مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] أي منيمك ورافعك إلي ،أي في تلك النومة .
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [ الأنعام: 60] ،وقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} [ الزمر: 42] ،وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ،واستدل بالآيتين المذكورتين .
الوجه الثالث: أن متوفيك ،اسم فاعل توفاه ،إذا قبضه وحازه إليه ،ومنه قولهم: توفي فلان دينه إذا قبضه إليه ،فيكون معنى متوفيك على هذا ،قابضك منهم إلي حياً ،وهذا القول هو اختيار ابن جرير .
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياماً ،ثم أحياه فلا معول عليه ،إذ لا دليل عليه .ا ه .من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .
وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله تعالى:{مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] على موت عيسى فعلاً ،منفية من أربعة أوجه ،وقد ذكرنا منها ثلاثة ،من غير تنظيم ،أولها أن{مُتَوَفّيكَ} حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .
الثاني: أن{مُتَوَفّيكَ} وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ،ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ،بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ،كما أوضحنا في هذا المبحث .
الثالث: أنه توفي نوم ،وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ،فكل من النوم والموت ،يصدق عليه اسم التوفي ،وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .
فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .
وذكرنا الأول منها بانفراده لنبين مذاهب الأصوليين فيه .
أما قوله تعالى:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [ المائدة: 117] الآية ،فدلالته على أن عيسى مات ،منفية من وجهين:
الأول منهما: أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ،ولا شك أن يموت قبل يوم القيامة ،فإخباره يوم القيامة بموته ،لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .
والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رَفْعٌ وقَبْضٌ للروح والجسد ،لا توفي موت .
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله:{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [ المائدة: 117] الآية ،تدل على ذلك لأنه لو كان توفي موت ،لقال ما دمت حياً ،فلما توفيتني لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله:{وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [ مريم: 31] .
أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم ،إلى موضع آخر .
وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ،وهذا لا إشكال فيه .
وأما الوجه الرابع ،من الأوجه المذكورة سابقاً ،أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ،قالوا إنه لا سبب لذلك الموت ،إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ،فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره ،تحققنا أنه لم يمت أصلاً ،وذلك السبب الذي زعموه ،منفي يقيناً بلا شك ،لأن الله جل وعلا قال:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [ النساء: 157] .وقال تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [ لنساء: 157 -158] .
وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معاً كما لا يخفى .
وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ،بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى .
فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه .
فهم يعتقدون صدقهم ،في أنهم قتلوه وصلبوه ،ولكن العليم اللطيف الخبير ،أوحى إلى نبيه ،في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .
محمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى كما أوضحه تعالى بقوله{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [ النساء: 157 -158] .
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي ،وأنه سينزل في آخر الزمان ،وأن نزوله من علامات الساعة ،وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ،واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .
وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ،وأن قوله{مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] على موته فعلاً .
وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ،وأنه على المقرر في الأصول ،في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ،ولا إشكال في أنه لم يمت فعلاً .
أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ،لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .
وأما على القول بالإجمال ،فالمقرر في الأصول أن المحمل ،لا يحمل على واحد من معنييه ،ولا معانيه بل يطلب بيان المراد منه ،بدليل منفصل .
وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .
وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ،فإنه يجاب عنه من أوجه:
الأول: أن التوفي محمول على النوم ،وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .
والثاني: أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ،فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلاً .
الثالث: أن القول المذكور بتقديم العرفية ،محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف ،عن إرادة العرفية اللغوية ،فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولاً واحداً .
وقد قدمنا مراراً دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا دون العرفية .
واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية ،محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ،فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ،وجب المصير إلى العرفية إجماعاً ،وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:
أجمع إن حقيقة تمات *** على التقدم له الإثبات
فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ،فمقتضى الحقيقة اللغوية ،أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة لا من ثمرتها .
ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .
والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعاً ،لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية .
فلا يقصد عاقل ألبتة الأكل من جذع النخلة .
أما الحقيقة اللغوية في قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [ آل عمران: 55] فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .
ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازاً لغوياً ،وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ،ومجازاً عرفياً .
وقد قدمنا مراراً أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة «منع جواز المجاز ،في المنزل للتعبد والإعجاز » .
فاتضح مما ذكرنا كله أن آية الزخرف هذه تبينها آية النساء المذكورة ،وأن عيسى لم يمت وأنه ينزل في آخر الزمان وإنما قلنا إن قوله تعالى هنا:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي علامة ودليل على قرب مجيئها ،لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مراراً .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي لا تشكن في قيام الساعة فإنه لا شك فيه .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له مراراً كقوله تعالى:{وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} [ الحج: 7] .وقوله:{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ} [ الشورى: 7] .وقوله{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [ الأنعام: 12] وقوله{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [ آل عمران: 25] إلى غير ذلك من الآيات .