قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} .
أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة ،أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيراً ما سبقونا إليه ،أنهم كفار مكة ،وأن مرادهم أن فقراء المسلمين ،وضعفاءهم كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم ،أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير .
وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه ،وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه ،وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة .
وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة تدل له آيات كثيرة من كتاب الله ،وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال ،والأولاد والجاه ،في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة ،وتكذيب الله لهم في ذلك ،فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [ المؤمنون: 55 -56] ،وقوله تعالى{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} [ مريم: 77 -79] .وقوله تعالى{وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [ سبأ: 35] مع قوله{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [ سبأ: 37] .وقوله تعالى:{وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [ فصلت: 50] .
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى:{وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [ الكهف: 36] .
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم ،وزعمهم أنهم أحقر عند الله ،من أن يصيبهم بخير ،وإنما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغنى ،والجاه والولد ،من الكفار فقد دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى في الأنعام:{وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} [ الأنعام: 53] .
فهمزة الإنكار في قوله: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ،تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير .
وقد رد الله عليهم بقوله{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [ الأنعام: 53 -54] الآية .وقوله تعالى في الأعراف:{وَنَادَى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [ الأعراف: 48 -49] وقوله تعالى في ص{وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشْرَارِ أ َتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} [ ص: 62 -63] .
فقد قال غير واحد: إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ويدل له قوله{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} [ ص: 63] وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار ،كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إلى قوله تعالى{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [ المصطفين: 29-36] .وقوله تعالى{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [ البقرة: 212] الآية .