قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} .
الظاهر أن صدوا في هذه الآية متعدية ،والمفعول محذوف ،أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون .
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} [ النحل: 97] الآية .أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول .
وصدوا هنا ،إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر ،فتكون كالتوكيد لقوله كفروا .
وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيساً .
لأن قوله: كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم .
وقوله: وصدوا على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق ،وهذا أرجح مما قبله .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ} أي خالفوا محمداً صلى الله عليه وسلم مخالفة شديدة .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه صلى الله عليه وسلم لن يضروا الله بكفرهم شيئاً ،لأنه غني لذاته الغنى المطلق .
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم ،لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم ،كما قال تعالى:{وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله .
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه ،وعدم تضرره بمعصيتهم ،قوله تعالى:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ آل عمران: 97] .
وقوله تعالى:{إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ} [ الزمر: 7] .
وقوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} [ إبراهيم: 8] .
وقوله تعالى:{قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الأرض} [ يونس: 68] .
وقوله تعالى:{فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} [ التغابن: 6] .
وقوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} [ فاطر: 15] إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به قوله تعالى:{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [ الفرقان: 23] .
وقوله تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ إبراهيم: 18] الآية .
وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [ النور: 39] .
وقوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ هود: 16] إلى غير ذلك من الآيات .