قوله تعالى:{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأمَانِي حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} .
الضمير المرفوع في ينادونهم راجع إلى المنافقين والمنافقات ،والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات ،وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ،قالوا لهم: انظروا نقتبس من نوركم ،وقيل لهم جواباً لذلك: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ،وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم ،أي في دار الدنيا ،كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم ؟قالوا: بلى ،أي كنتم معنا في دار الدنيا ،ولكنكم فتنتم أنفسكم .
وقد قدمنا مراراً معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن ،وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي ،وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم: أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن ،ومن هذا المعنى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [ البقرة: 193] أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه ،وقوله:{وَتَرَبَّصْتُمْ} التربص: الانتظار ،والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم ،كقوله تعالى: في منافقي الأعراب المذكورين في قوله:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ} [ التوبة: 101] ،{وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} [ التوبة: 98] وقوله تعالى:{وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في دين الإسلام ،وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخر وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [ التوبة: 45] .
وقوله تعالى:{وَغرَّتْكُمُ الأمَاني حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} الأماني جمع أمنية ،وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل ،كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم ،وأن المؤمنين حقاً سفهاء في صدقهم ،أي في إيمانهم ،كما بين تعالى ذلك في قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ في الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [ البقرة: 11- 12] الآية ،وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ} [ البقرة: 13] الآية ،وما تضمنته هذه الآية الكريمة ،من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}إلى قوله{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [ النساء: 123 -124] .
وقوله:{حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} ،الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} هو الشيطان وعبر عنه بصيغة المبالغة ،التي هي المفعول لكثرة غروره لبني آدم ،كما قال تعالى{وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} [ النساء: 120] .
وما ذكره جل وعلا وفي هذه الآية الكريمة ،من أن الشيطان الكثير بالغرور غرهم بالله ،جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان:{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [ لقمان: 33] ،وقوله في أول فاطر{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [ فاطر: 5 -6] وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور ،دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق ،وأنه غير واقع ،والغرور بالضم الخديعة .