قوله تعالى:{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} .
توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة ،لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة وعلى البعث وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية ،نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه .
أما الإبل فلعلها أقرب المعلومات للعرب وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها ،وملبسهم من أوبارها وجلودها ،وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة ،ولا في أي حيوان آخر ،وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ 71 وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ 72 وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} .
وكذلك في خصوصها في قوله:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ 5 وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ 6 وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} .
إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها البتة ،وكل منها دليل على القدرة بذاته .أما الجبال فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ويشغل تفكيرهم في كل حين ،لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها ،والمقيل في كهوفها وظلها ،والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها .وقد وجه الأنظار إليها أيضاً في موطن آخر في قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً 6 وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ،ثوابت ،كما بين تعالى أنها ،رواسي للأرض أن تميد بكم{والجبال أرساها 32 متاعاً لكم ولأنعامكم} ،فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا .
أما السماء ورفعها أي ورفعتها في خلقها وبدون عمد ترونها وبدون قطور أو تشقق على تطاول زمنها ،فهي أيضاً محط أنظارهم ،وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم .
ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث ،كما تقدم مراراً .
وتقدم للشيخ عند قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية .بيان كونها آية .أما الأرض وكيف سطحت ،فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} .
وقوله:{كَيْفَ سُطِحَتْ} آية ثابتة ،لأن جرمها مع إجماع المفسرين على تكويرها ،فإنها ترى مسطحة أي من النقطة التي هي في امتداد البصر ،وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها ،لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدًا بعيداً يكاد سطحه يرى مسطحاً من نقطة النظر إليه ،وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق ،وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنبيه على هذا المعنى ،عند الكلام على قوله تعالى:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .من سورة يونس .
تنبيه
التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ونصب الجبال ،ورفع السماء ،وتسطيح الأرض ،مع أن الكيف للحالة ،واللَّه تعالى لم يشهد أحداً على شيء من ذلك كله{مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه .
والجواب واللَّه تعالى أعلم: هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل ،ونصب الجبال إلخ .وإن لم يعلموا الكيف ،بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه ،فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم ،كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها ،فيتساءل كيف تم صنعها ؟وقد وقع مثل ذلك وهو الإحالة على الأثر بدلاً من كشف الكنه والكيف ،وذلك في سؤال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه ،أن يريه كيف يحيي الموتى .فكان الجواب: أن أراه الطيور تطير ،بعد أن ذبحها بيده وقطعها ،وجعل على كل جبل منها جزءاً .فلم يشاهد كيفية وكنه ،وحقيقة الإحياء ،وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة إليها .لأن ذلك ليس في استطاعته ،ولكن شاهد الآثار المترتبة على ذلك ،وهي تحركها وطيرانها وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها .مع أنه كان للعزير موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشرها ،ثم يكسوها لحماً .واللَّه تعالى أعلم .