وقوله:{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} العمل معروف ،والنصب: التعب ،وقد اختلف في زمن العمل والنصب هذين ،هل هو كان منها في الدنيا أم هو واقع منهم فعلاً في الآخرة ،وما هو على كلا التقديرين: فالذين قالوا: هو كان منهم في الدنيا ،منهم من قال: عمل ونصب في العبادات الفاسدة كعمل الرهبان والقسيسين والمبتدعة الضالين ،فلم ينفعهم يوم القيامة ،أي كما في قوله:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} .
ومنهم من قال: عمل ونصب والتذ ،فيما لا يرضى اللَّه ،فعامله الله بنقيض قصده في الآخرة ،ولكن هذا الوجه ضعفه ظاهر ،لأن من هذه حالهم لا يعدون في عمل ونصب بل في متعة ولذة .
والذين قالوا: سيقع منهم بالفعل يوم القيامة ،اتفقوا على أنه عمل ونصب في النار من جر السلاسل ،عياذاً بالله .وصعودهم وهبوطهم الوهاد والوديان ،أي كما في قوله:{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ،وقوله:{وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .
وقد ذكر الفخر الرازي تقسيماً ثلاثياً ،فقال: إما أن يكون ذلك كله في الدنيا أو كله في الآخرة ،أو بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة ،ولم يرجح قسماً منها إلا أن وجه القول بأنها في الدنيا وهي في القسيسين ،ونحوهم .فقال: لما نصبوا في عبادة إله وصفوه بما ليس متصفاً به ،وإنما تخيلوه تخيلاً أي بقولهم{ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وقولهم:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ،فكانت عبادتهم لتلك الذات المتخيلة لا لحقيقة الإله سبحانه .
ولا يبعد أن يقال على هذا الوجه: إن من كان ممن لا ينطق بالشهادتين ويعمل على جهالة فيما لا يعذر بجهله أن يخشى عليه من هذه الآية ،كما يخشى على من يعمل على علم ،ولكن في بدعة وضلالة .
ومما يشهد للأول حديث المسيء صلاته .ولأثر حذيفة"رأى رجلاً يصلي فطفق فقال له: منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟قال منذ أربعين سنة .قال له: ما صليت منذ أربعين سنة ولو مت على ذلك ،مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم ".
والأحاديث الواردة في ذلك على سبيل العمومات مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمري فهو رد "أي مردود .
وحديث الحوض"فيذاد أقوام عن حوضي ،فأقول: أمتي أمتي ،فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك إنهم غيَّروا وبدَّلوا ".
ونحو ذلك مما يوجب الانتباه إلى صحة العمل وموافقته لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك القسم الثاني كما في قوله:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ} .
أما الراجح من القولين في زمن{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أهو في الدنيا أم في الآخرة ؟فإنه القول بيوم القيامة ،وهو مروي عن ابن عباس وجماعة ،والأدلة على ذلك من نفس السياق .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد جداً في هذا الترجيح ،ولم أقف على قول لغيره أقوى منه ،نسوق مجمله للفائدة:
قال في المجموع في تفسير هذه السورة بعد حكاية القولين: الحق هو الثاني لوجوه ،وساق سبعة وجوه:
الأول: أنه على القول الثاني يتعلق الظرف بما يليه ،أي وجوه يوم الغاشية ،خاشعة عاملة ناصبة صالية .
أما على القول الأول فلا يتعلق إلاَّ بقوله: تصلى .ويكون قوله: خاشعة صفة للوجوه ،قد فصل بينها وبين الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى .والتقدير: وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذٍ تصلى ناراً حامية ،والتقديم والتأخير على خلاف الأصل ،فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه ،والتقديم والتأخير ،إنما يكون مع قرينة .
والثاني: أن الله ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة بعد ذلك{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ،أي في ذلك اليوم ،وهو يوم الآخرة: فالواجب تناظر القسمين أي في الظرف .
الثالث: أن نظير هذين القسمين ما ذكر في موضع آخر في قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ،وفي موضع آخر في قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} ،وهذا كله وصف للوجوه في الآخرة .
الرابع: أن المراد بالوجوه أصحابها لأن الغالب في القرآن وصف الوجوه بالعلامة كقوله:{سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ} ،وقوله:{فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} ،وهذا الوجه لم تتضح دلالته على المقصود .
الخامس: أن قوله: خاشعة عاملة ناصبة ،لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم ،فإن هذا إلى المدح أقرب ،وغايته أنه وصف مشترك بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين ،والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص ،لقيل: خاشعة للأوثان مثلاً ،عاملة لغير اللَّه ،ناصبة في طاعة الشيطان ،وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقاً ولا وعيد عليه ،فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن ،وهذا الوجه من أقواها في المعنى وأوضحها دلالة .
وقد يشهد له أن هؤلاء قد يكون منهم العوام المغرورون بغيرهم ،ويندمون غاية الندم يوم القيامة على اتباعهم إياهم ،كما في قوله تعالى:{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} .
السادس: وهو مهم أيضاً ،أنه لو جعل لهم في الدنيا لكان خاصاً ببعض الكفار دون بعض ،وكان مختصاً بالعباد منهم ،مع أن غير العباد منهم يكونون أسوأ عملاً ويستوجبون أشد عقوبة .
السابع: أن هذا الخطاب لو جعل لهم في الدنيا لكان مثله ينفر من أصل العبادة والتنسك ابتداء ،أي وقد جاءت السنة بترك أصحاب الصوامع والمتنسكين دون التعرض لهم بقتل ولا قتال ،كما أنها أقرت أصحاب الديانات على دياناتهم ،مما يشعر باحترام أصل التعبد لعموم الجنس ،كما أشار رحمة الله تعالى عليه .
وقد أوردنا مجمل كلامه رحمه اللَّه ،لئلا تتخذ الآية على غير ما هو الراجح فيها ،أو يحمل السياق على غير ما سيق له ،وقد ختم كلامه بتوجيه لطيف بقوله: ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة ،وليس في الخطاب تقييد ،كان هذا سعياً في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه ا ه .
ومن الذي يعطي نفسه حق إصلاح الخطاب في كلام رب العالمين ،إنها لفتة إلى ضرورة ومدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن ،الذي نهجه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن .
وقد بدا لي وجه آخر ،وهو لو جعل هذا العمل الكفار والمبتدعة ،لكان منطوقه أن العذاب وقع عليهم مجازاة على عملهم ونصبهم في عبادتهم تلك ،والحال أن عذاب الكفار عموماً إنما هو على ترك العمل لله وحده ،وعقاب المبتدعة فيما ابتدعوه من ضلال ،فإذا كان ما ابتدعوه لا علاقة له بأركان الإسلام ولا بالعقيدة ،وإنما هو في فروع من العبادات ابتدعوها لم تكن في السنة ،فإنهم وإن عملوا ونصبوا فلا أجر لهم فيها ،ولا يقال: إنهم يعذبون عليها بطل ذلك المذكور مع سلامة العقيدة في التوحيد ،والقيام بالواجب في أركان الإسلام ،إذ العذاب المذكور ليس مقابلاً بالعمل والنصيب المذكور ،واللَّه تعالى أعلم .