/م1
وقوله:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ،قالوا: النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية ،من تفكير وسلوك ...إلخ .
وقيل: النفس هنا بمعنى القوى المفكرة المدركة مناط الرغبة والاختيار ،وعليه فذكر النفس بالمعنى الأول ،تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها ،وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم ،كما في قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ،وقال:{وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ،أي من أعضاء وأجزاء وتراكيب وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع ،وفي البصر ،وفي الشم ،وفي الذوق ،وفي الحس ،ومن داخل الجسم ما هو أعظم ،فحق أن يقسم بها .
وما سواها: أي بالقدرة الباهرة ،والعلم الشامل .وذكرها بالمعنى الثاني ،فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول ،وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار ،ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع ،فإنها عالم مستقل .
وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم ،لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ،ولكن في هذا الجانب قال:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق وأداها بوفاء ،ونال رضى الله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه .
فهذه النفس في تسويتها لتلقى معاني الخير والشر ،واستقبال الإلهام الإلهي للفجور ،والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد ،والتي لا تملك سلباً ولا إيجاباً .
وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب ،كالآلة الحاسبة والعقل الالكتروني ،فإنها لا تخطئ كما يقولون ،وقد بهرت العقول في صفتها ،ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر .
فنقول: إنها أولاً من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر .
ثانياً: هي لا تخطئ لأنها لا تقدر أن تخطئ ،لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري ،وهي لا اجتهاد لها ،إنما تشير وفق ما رسم لها كالمادة المسجلة في شريط ،فإن المسجل مع دقة حفظة لها فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفاً واحداً .
أما الإنسان فإنه يغير ويبدل ،وعندما يبدل كلمة مكان كلمة ،فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى ،أو لاختياره ترك الكلمة الأولى .
وهكذا هنا ،فاللَّه تعالى هنا خلق تلك النفس أولاً ،ثم سواها على حالة تقبل تلقي الإلهام بقسيمة: الفجور والتقوى ،ثم تسلك أحد الطريقين ،فكأن مجيء القسم بها بعد تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها ،وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها .
تنبيه
وفي مجيئها بعد الآيات الكونية .من شمس وقمر وليل ونهار ،وسماء وأرض ،لفت إلى وجوب التأمل في تلك المخلوقات ،يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها والاستدلال على تغير الأزمان ،وحركة الأفلاك ،وإحداث السماء بالبناء أنه لا بد لهذا العالم من صانع ،ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم .
كما عرض إبراهيم عليه السلام على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية ،فأشار إلى الشمس أولاً ،ثم إلى القمر ،ثم انتقل به إلى الله سبحانه .
وقوله:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ،إن كان ألهمها بمعنى هداها وبين لها ،فهو كما في قوله:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} ،وقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} ،وهذا على الهداية العامة ،التي بمعنى الدلالة والبيان .
وإن كان بمعنى التيسير والإلزام ،ففيه إشكال القدر في الخير الاختيار .
وقد بحث هذا المعنى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب بحثاً وافياً .