استئناف يجوز أن يكون استئنافاً ابتدائياً .ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لحرف{ إنّ} إذا لم يكن لرد الإِنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى:{ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} في سورة البقرة ( 32 ) .
واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به ردُّ كلام صادر من معيَّن ،وحكايةُ لفظٍ مرادٍ بالرد ،قال الواحدي: قال ابن عباس: إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناسٌ من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له: من الذي كنت تتحدث معه فقال: ذلك الأبترُ ،وكان قد توفّي قبل ذلك عبدُ الله ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبلَ عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكورُ من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ ،وكانوا يَصِفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة ،فحصل القصر في قوله{ إن شانئك هو الأبتر} لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانىء النبي صلى الله عليه وسلم قصرَ المسند على المسند إليه ،وهو قصر قلب ،أي هو الأبتر لا أنت .
و{ الأبتر}: حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذَنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيهاً بالدَّابة المقطوع ذَنَبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر"يقال: بَتر شيئاً إذا قطع بعضَه وبَتر بالكسر كفرِح فهو أبتر ،ويقال للذي لا عقب له ذكوراً ،هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قُطع أثره في تخيُّل أهلِ العرف .
ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر ،أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب ،فابنه عمرو الصحابي الجليل ،وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير .قال ابن حزم في « الجمهرة » عقبه بمكة وبالرهط .
فقوله تعالى:{ هو الأبتر} اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانىء النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه .
ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل: « محمد أبتر » إبطالاً لقوله ذلك ،وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضرباً من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهاً على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى:{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}[ البقرة: 189] .وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير ،أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله .وهب أنه لم يولد له البتة ،وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصاً لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض ،وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي ،والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة ،وأعزّه بالتأييد ،وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه ،فتمحض أن كماله الذاتي بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته ،وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم .
وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر في قوله:{ هو الأبتر} نفيُ وصف الأبتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن بمعنًى غير المعنى الذي عناه شانئه فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصراً في استعمال الضمير في غير معنى معاده ،على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجهاً في واو العطف من قوله تعالى:{ وجاء ربك والملك}[ الفجر: 22] لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال: وجاء الملك وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى ،قال: وقد سَبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في « طراز المجالس » في قول محمد الصالحي من شعراء الشام:
وحديثُ حُبّي ليسَ بالْ *** مَنْسُوخ إلاّ في الدَّفاتر
والشانىء: المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه: الشنآن ،وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيء صلى الله عليه وسلم فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازاً به .