تذييل للأخبار السابقة .والواو اعتراضية .و ( إنْ ) مخفّفة من{ إنّ} الثّقيلة في قراءة نافع ،وابن كثير ،وأبي بكر عن عاص ،وأعملت في اسمها فانتصب بعدها .و( إنْ ) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق .وقرأ الباقون ( إنّ ) مشدّدة على الأصل .
وبتنوين{ كُلاّ} عوض عن المضاف إليه .والتقدير: وإنّ كلّهم ،أي كلّ المذكورين آنفاً من أهل القرى ،ومن المشركين المعرّض بهم ،ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى عليه السّلام .
و ( لَما ) مخفّفة في قراءة نافع ،وابن كثير ،وأبي عمرو ،والكسائي ،فاللاّم الدّاخلة على ( مَا ) لام الابتداء التي تدخل على خبر{ إنّ} .واللاّم الثّانية الدّاخلة على{ ليوفينّهم} لام جواب القسم .و ( مَا ) مزيدة للتأكيد .والفصل بين اللاّمين دفعاً لكراهة توالي مثلين .
وقرأ ابن عامر ،وحمزة ،وعاصم ،وأبو جعفر ،وخلَف بتشديد الميم من ( لَمّا ) .فعند مَن قرأ ( إنْ ) مخفّفة وشدّد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ( إن ) مخفّفة من الثقيلة ،وأمّا مَن شدّد النون ( إنّ ) وشدّد الميم من ( لمّا ) وهم ابن عامر ،وحمزة ،وحفص عن عاصم ،وأبو جعفر ،وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء: إنّها بمعنى ( لَمِنْ مَا ) فحذف إحدى الميمات الثلاث ،يريد أنّ ( لَمّا ) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صُورتها كصورة حرف ( لَمّا ) في رسم المصحف ( لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها ) وإنّما هي مركّبة من لاَم الابتداء و ( مِنْ ) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حَية النمري:
وإنّا لَمِمّا نَضرب الكبش ضربة *** على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفم
أي نكثر ضرب الكبش ،أي أمير جيش العدوّ على رأسه .وقول ابن عبّاس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدّة ،وكان ممّا يحرّك لسانه حين يُنزل عليه القرآن ،فقال الله تعالى:{ لا تحرّك به لسانك لتعجل به}[ القيامة: 16] الآية .فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات: وإنّ كُلا لَمِنْ مَا ليُوفينهم ،فلمّا قلبت نون ( من ) ميماً لإدغامها في ميم ( مَا ) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفاً وهي ميم ( مِن ) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون ( مِن ) فصار ( لَمّا ) .
ولام{ ليوفينّهم} لام قسم .
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به .
والمعنى: وإنّ جميعهم لَلاَقُون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ،وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه .فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي ومشى عليه البيضاوي .
وقد أنهاها أبو شامة في « شرح منظومَة الشّاطبي » إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه .
وفي تفسير الفخر: سمعت بعض الأفاضل قال: إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات ،أوّلها: كلمة ( إنْ ) وهي للتأكيد ،وثانيها ( كلّ ) وهي أيضاً للتّأكيد ،وثالثها اللاّم الدّاخلة على خبر ( إنّ ) ،ورابعها حرف ( ما ) إذا جعلناه موصولاً على قول الفراء ،وخامسها القسم المضمر ،وسادسها اللاّم الدّاخلة على جواب القسم ،وسابعها النون المؤكدة في قوله:{ ليوفينهم} .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال ،أي إعطاء الجزاء وافياً من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء .
وجملة{ إنّه بما يعملون خبير} استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع آرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقاً للعمل تمام المطابقة .وذلك محقق التوفية .