القول في تأويل قوله تعالى:وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قال أبو جعفر:اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة:(وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَّا) مشددة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى ذلك:
فقال بعض نحويي الكوفيين:معناه إذا قرئ كذلك:وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم،ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر:(5)
وَإِنِّـي لَمِمَّـا أُصْـدِرُ الأَمْـرَ وَجْهَـهُ
إِذَا هُــوَ أَعْيـى بالسَّـبِيلِ مَصَـادِرُهُ (6)
ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء:وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ، [سورة النحل:90] ، تخفُّ الياء مع الياء. (7) وذكر أن الكسائي أنشده:(8)
وَأشْــمَتَّ العُــدَاةَ بِنَــا فَـأضْحَوْا
لــدَيْ يَتَبَاشَــرُونَ بِمَــا لَقِينَــا (9)
وقال:يريد "لديَّ يتباشرون بما لقينا "، فحذف ياء، لحركتهن واجتماعهن ، قال:ومثله:(10)
كـــأنَّ مِــنْ آخِرِهــا الْقــادِمِ
مَخْــرِمُ نَجْــدٍ فــارعِ المَخَـارِمِ (11)
وقال:أراد:إلى القادم، فحذف اللام عند اللام.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك إذا قرئ كذلك:وإن كلا شديدًا وحقًّا ، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال:وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك:(وإنّ كلا لمَّا) بالتشديد والتنوين، (12) ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل "لمَّا "، كما فعل ذلك في قوله:ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى، [سورة المؤمنون:44] ، فقرأ "تترى "، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ:"لمَّا "بالتنوين، وقرأ آخرون بغير تنوين، كما قرأ (لمَّا) بغير تنوين من قرأه. وقالوا:أصله من "اللَّمِّ"من قول الله تعالى:وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا، يعني:أكلا شديدًا.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك إذا قرئ كذلك:وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل:"بالله لمَّا قمتَ عنا ، وبالله إلا قمت عنا ". (13)
* * *
قال أبو جعفر:ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه "لمَّا "إلى معنى "إلا "، في اليمين خاصة . (14) وقالوا:لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال:"قام القوم لمَّا أخاك "بمعنى:إلا أخاك، ودخولها في كل موضع صلح دخول "إلا "فيه.
قال أبو جعفر:وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، في فساده، وهو أنّ "إنّ"إثبات للشيء وتحقيق له، و "إلا "، تحقيق أيضًا، (15) وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه، أن تكون "إنّ"بمعنى الجحد عنده، حتى تكون "إلا نقضًا "لها. وذلك إن قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ "إن "فيجعلها بمعنى "إن "التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك ، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا "لكل "بقوله:ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد "إلا "من الفعل ، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب:"ما زيدًا إلا ضربت "، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه ، إلا أن يرفع رافع "الكل "، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. (16)
* * *
وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين:(وَإنْ كُلا) بتخفيف "إن "ونصب (كُلا لمَّا) مشدّدة.
* * *
وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك، أراد "إنّ"الثقيلة فخففها، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع:"كأنْ ثَديَيْه حُقَّان "، فنصب ب "كأن "، والنون مخففة من "كأنّ"، ومنه قول الشاعر:(17)
وَوَجْــــهٌ مُشْـــرِقُ النَّحْـــرِ
كَــــأَنْ ثَدْيَيْــــهِ حُقَّــــانِ (18)
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف:(إنْ) ونصب (كُلا)، وتخفيف (لَمَا).
* * *
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون "إن "وهو يريد تشديدها، ويريد ب "ما "التي في "لما "التي تدخل في الكلام صلة، (19) وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى:وإنّ كلا ليوفينهم .
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك:وإنّ كُلا ليوفينهم ، أي:ليوفين كُلا،فيكون نيته في نصب "كل "كانت بقوله:"ليوفينهم "، فإن كان ذلك أراد ، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة:(وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَا) مخففة (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). ولهذه القراءة وجهان من المعنى:
أحدهما:أن يكون قارئها أراد:وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه "ما "التي في "لما "إلى معنى "من "كما قال جل ثناؤه:فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، [سورة النساء:3] ، وإن كان أكثر استعمال العربلها في غير بني آدم،وينوي باللام التي في "لما "اللام التي تُتَلقَّى بها "إنْ"جوابًا لها، وباللام التي في قوله:(ليوفينهم) ، لام اليمين ، دخلت فيما بين ما وصلتها، كما قال جل ثناؤه:وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ[سورة النساء:72] ، وكما يقال:"هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه ".
والوجه الآخر:أن يجعل "ما "التي في "لما "بمعنى "ما "التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها، واللام التي في:(ليوفينهم) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها "إنّ"كررت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر:(20)
فَلَـوْ أَنَّ قَـوْمِي لَـمْ يَكُونُـوا أَعِـزَّةً
لَبَعْـدُ لَقَـدْ لاقَيْـتُ لا بُـدَّ مَصْرَعَـا (21)
وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه:(وإنَّ كُلا) بتشديد "إنَّ"، و (لمَّا) بتنوينها، بمعنى:شديدًا وحقًا وجميعًا.
* * *
قال أبو جعفر:وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم ، قراءة من قرأ:"وَإنَّ"بتشديد نونها، "كُلا لَمَا "بتخفيف "ما "( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) ، بمعنى:وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك ، يا محمد ، قصصهم في هذه السورة، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم ، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب،فتكون "ما "بمعنى "مَن "واللام التي فيها جوابًا لـ"إنّ"، واللام في قوله:( ليوفينهم ) ، لام قسم.
* * *
وقوله:( إنه بما يعملون خبير) ، يقول تعالى ذكره:إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد، "خبير "، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به ، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم. (22)
--------------------------
الهوامش:
(5) لم أعرف قائله .
(6) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية . في المطبوعة:"لما "و "أعيى بالنبيل "، وكلاهما خطأ ، صوابه من المخطوطة ومعاني القرآن . وقوله "لمما "هنا ، ليست من باب "لما "التي يذكرها ، إلا في اجتماع الميمات . وذلك أن قوله:"وإن كلا لمما ليوفينهم "، أصلها:"لمن ما "، "من "بفتح فسكون ، اسم . وأما التي في البيت فهي "لمن ما "، "من "حرف جر ، ومعناها معنى "ربما "للتكثير ، وشاهدهم عليه قول أبي حية النميري ( سيبويه 1:477 ):
وَإِنَّـا لَمِمَّـا نَضْـرِبُ الكَـبْشَ ضَرْبَةً
عَـلَى رَأْسِـهِ تُلْقِـي اللِّسَـانَ مِنَ الفَم
.
(7) هكذا في المخطوطة:"تخف "، وفي المطبوعة:"يخفف "، وأما الذي في معاني القرآن للفراء ، وهذا نص كلامه:"بحذف الياء "، وهو الصواب الجيد .
(8) لم أعرف قائله .
(9) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية ، وفي المطبوعة والمخطوطة:"وأشمت الأعداء "، وهو خطأ ، صوابه من معاني القرآن .
(10) لم أعرف قائله .
(11) معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية . وكان في المطبوعة:"من أحرها "، و "محرم "و "المحارم "، وهو خطأ . و "المخرم "، ( بفتح فسكون فكسر ) ، الطريق في الجبل ، وجمعه "مخارم ".
(12) هذه قراءة الزهري ، كما سيأتي ص:498 .
(13) في المطبوعة والمخطوطة:"لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا "، وذلك خطأ ، ولا شاهد فيه ، وصوابه من معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية .
(14) في المطبوعة ، أسقط "إلا "الثانية ، فأفسد الكلام .
(15) في المطبوعة والمخطوطة:"وإلا أيضًا تحقق أيضًا "، حذفت أولاهما ، لأنه تكرار ولا ريب .
(16) في المطبوعة:"بخروجه "، والصواب من المخطوطة .
(17) من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها .
(18) سيبويه 1:281 ، رفعًا "كأن ثدياه ، وابن الشجري في أماليه 1:237 رفعًا 2:3 ، نصبا ، والخزانة 4:358 ، والعيني ( هامش الخزانة ) 2:305 .
(19) "صلة "، أي:زيادة ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف .
(20) لم أعرف قائله .
(21) معاني القرآن للفراء ، في تفسير الآية . وكان في المخطوطة والمطبوعة:"مصرعي "، وأثبت ما في معاني القرآن .
(22) لنظر تفسير "خبير "فيما سلف من فهارس اللغة ( خبر ) .