الربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه ،فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده .كما قال تعالى:{ لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين}[ القصص: 10] .ومنه قولهم: هو رابط الجأش .وفي ضده يقال: اضطرب قلبه ،وقال تعالى:{ وبلغت القلوب الحناجر}[ الأحزاب: 10] .استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء .
وتعدية فعل{ ربطنا} بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل .
و{ إذ قاموا} ظرف للربط ،أي كان الربط في وقت في قيامهم ،أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارناً لربط الله على قلوبهم ،أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول .
والقيام يحتمل أن يكون حقيقياً ،بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك ،أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك .ويحتمل أن يكون القيام مستعاراً للإقدام والجَسْر على عمل عظيم ،وللاهتمام بالعمل أو القول ،تشبيهاً للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما ،كقول النابغة:
بأن حِصْناً وحياً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب
فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود .
وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم: إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات ،وإما لأن الله لم يكن معروفاً باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو ( جوبتير ) الممثل في كوكب المشتري ،فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة .وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى:{ قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}[ الشعراء: 23 24] .
هذا إن كان القول مَسوقاً إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه ،فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون{ لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون}[ الشعراء: 50] ،أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالاً لطائرهم على طريقة التعريض من باب ( إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة ) ،واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم .وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته ،ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم ،بخلاف الإسناد في قوله:{ قال قائل منهم كم لبثتم}[ الكهف: 19] تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقاً آخر ،ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم ،ويكون قوله: رب السماوات والأرض} خبر المبتدأ إعلاماً لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة{ لن ندعوا} استئنافاً .وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيداً لقوله:{ وإذ اعتزلتموهم}[ الكهف: 16] الخ .فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم ،ولأنها تتضمن تشريفاً لأنفسهم ،ويكون قوله: رب السماوات والأرض} صفةً كاشفة ،وجملة{ لن ندعوا من دونه إلهاً} خبرَ المبتدأ .
وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال .
وجملة{ لقد قلنا إذاً شططاً} استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بِ ( لن ) .وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها .واللام للقسم .
والشطط: الإفراط في مخالفة الحق والصواب .وهو مشتق من الشط ،وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس ،فاستعير للإفراط في شيء مكروه ،أي لقد قلنا قولاً شططاً ،وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله .