يقول تعالى:وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له:"دقيانوس "، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه . فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها ، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض . فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه ، وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية . فكان أول من جلس منهم [ وحده] أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا ، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ". وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والناس يقولون:الجنسية علة الضم .
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفا منهم ، ولا يدري أنهم مثله ، حتى قال أحدهم:تعلمون - والله يا قوم - إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم ، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره . فقال آخر:أما أنا فإني [ والله] رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر:وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم ، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله:( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) و "لن "لنفي التأبيد ، أي:لا يقع منا هذا أبدا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ؛ ولهذا قال عنهم:( لقد قلنا إذا شططا ) أي:باطلا وكذبا وبهتانا .