{ الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر}
ويجوز أن يكون بدلاً من{ مَن} الموصولة في قوله:{ من ينصره}[ الحج: 40] فيكون المراد: كل من نصر الدين من أجيال المسلمين ،أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله: وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوامَ نصرهم ،وانتظام عقد جماعتهم ،والسلامة من اختلال أمرهم ،فإن حَادُوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرُهم إلى الله .
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس ،وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم ،وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم .
والتمكين: التوثيق ،وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك ،والأرض للجنس ،أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم .وقد تقدم قوله تعالى:{ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش} في[ سورة الأعراف: 10] ،وقوله:{ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} في[ سورة يوسف: 56] .
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين: إما بكونه معروفاً للأمة كلها ،وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة .وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه .
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين ،أي أن لا يُرضى بأنه من الدين .وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها ،فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ،ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية ،والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين .
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال ،ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ،ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس .
{ وَلِلَّهِ عاقبة الامور}
عطف على جملة{ ولينصرن الله من ينصره}[ الحج: 40] ،أو على جملة{ إن الله لقوي عزيز}[ الحج: 40] ،والمآل واحد ،وهو تحقيق وقوع النصر ،لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع ،وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر .
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ .وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسماً .وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة» .وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء .