أُتبع ضرب المثل لإمكان إعادة الخلق عَقِبَ دليل بدئه بضربِ مثل لإبطال الشرك عقب دليليه المتقدمين في قوله تعالى{ يُخرج الحي من الميت}[ الروم: 19] وقوله{ ويحيي الأرض بعد موتها}[ الروم: 19] لينتظم الدليل على هذين الأصلين المهمين: أصل الوحدانية ،وأصل البعث ،وينكشف بالتمثيل والتقريب بعد نهوضه بدليل العقل .والخطاب للمشركين .
وضرب المثل: إيقاعه ووضعه ،وعليه فانتصاب{ مثلاً} على المفعول به ،أو يراد بضربه جعله ضرباً ،أي مِثْلاً ونظيراً ،وعليه فانتصاب{ مثلاً} على المفعولية المطلقة لأن{ مَثَلاً} حينئذ يرادف ضرباً مصدر ضربَ بهذا المعنى .وقد تقدم عند قوله تعالى{ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} في سورة البقرة ( 26 ) .واللام في لكم} لام التعليل ،أي ضرب مثلاً لأجلكم ،أي لأجل إفهامكم .
و{ مِن} في قوله{ مِن أنفسكم} ابتدائية متعلقة ب{ ضرَب} أي جعل لكم مثلاً منتزعاً من أنفسكم .والأنفس هنا جنس الناس كقوله{ فسلِّموا على أنفسكم}[ النور: 61] أي مثَلاً من أحوال جماعتكم إذ لا تخلو الجماعة عن ناس لهم عبيد وهم يعرفون أحوال العبيد مع سادتهم سواء منهم من يملك عبيداً ومن لا عبيد له .فالخطاب لجميع الأمة باعتبار وجود فريق فيهم ينطبق عليهم هذا المثَل .والاستفهام مستعمل في الإنكار ومناط الإنكار قوله{ فيما رزقناكم} إلى آخره ،أي من شركاء لهم هذا الشأن .
و{ مِن} في قوله{ من ما ملكت أيمانكم} تبعيضية ،و{ مِن} في قوله{ مِن شركاء} زائدة مؤكدة لمعنى النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري .فالجمع بين هذه الحروف في كلام واحد من قبيل الجناس التام .
والشركاء: جمع شريك ،وهو المشارك في المال لقوله{ فيما رزقناكم ،} والفاء للتفريع على الشركة ،أي فتكونوا متساوين فيما أنتم فيه شركاء .
وجملة{ تخافونهم} في موضع الحال من ضمير الفاعل في{ سواء .} والخوف: انفعال نفساني ينشأ من توقع إصابة مكروه يبقى ،وهو هنا التوقي من التفريط في حظوظهم من الأرزاق وليس هو الرعب بقرينة قوله{ كخيفتكم أنفسكم ،} أي كما تتوقون أنفسكم من إضاعة حقوقكم عندهم .
والأنفس الثاني بمعنى: أنفس الذين لهم شركاء مما ملكت أيمانهم من المخاطبين لأنهم بعض المخاطبين .
وهذا المثل تشبيه هيئة مركبة بهيئة مركبة ؛شبهت الهيئة المنتزعة من زعم المشركين أن الأصنام شركاء لله في التصرف ودافعون عن أوليائهم ما يريده الله من تسلط عقاب أو نحوه إذ زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وهم مع ذلك يعترفون بأنها مخلوقة لله فإنهم يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك .هذه الهيئة شبهت بهيئة ناس لهم عبيد صاروا شركاء في أرزاق سادتهم شركة على السواء فصار سادتهم يحذرون إذا أرادوا أن يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم ،وهذا التشبيه وإن كان منصرفاً لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيداً ،وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس ،وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم ،وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام ،وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفاً يأبَوْنه .
فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهةُ منفيةً منكَرة ،ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود ليُنتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازاً لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة .ولذلك عقب بجملة{ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} ،أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلاً كهذا التفصيل وضوحاً بيناً ،وجملة{ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}[ الروم: 24] استئناف ابتدائي .والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض ،والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم ،فيزدادَ المؤمنون يقيناً ويؤمنَ الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة .
وفي ذكر لفظ{ قوم} وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى{ لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة ( 164 ) ،وتقدمت له نظائر كثيرة .والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله{ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً} إلى قوله{ يعقلون}[ الروم: 24] .
وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول ،وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى{ وما يَعْقِلها إلا العالمون}[ العنكبوت: 43] وقوله{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعِق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون}[ البقرة: 171] .
وقوله{ كذلك} تقدم نظيره في قوله تعالى{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}[ البقرة: 143] .