/م46
{ ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو} النبأ الخبر المهم ذو الفائدة العظيمة ، والاستنباء طلبه ، وهذا إخبار عن بعض الكفار والمكذبين ، فإنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم ، وإنما كانوا ظانين مستبعدين ، بين معاندين ومقلدين ، وقد تقدم في هذا السياق قوله تعالى:{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا} [ يونس:36] ، والمعنى:ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة أحق هو سيقع بالفعل ؟ أم هو إرهاب وتخويف ؟
{ قُلْ إِي ورَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي بكسر الهمزة وسكون الياء الخفيفة حرف جواب وتصديق بمعنى نعم ، وإنما يستعمل مع القسم ، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع ، كما قال في أول سورة الطور بعد القسم:{ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} [ الطور:7 ، 8] ، وقد أكده هنا بالقسم وبأن مع الجملة الاسمية .
{ ومَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لله تعالى عن إنزاله بكم ، ولا بفائتيه هربا منه ، وقد علم مؤمنوا الجن ما جهلتم إذ قالوا كما حكى الله عنهم:{ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجز هربا} [ الجن:12] .
وقد استشكل بعض المفسرين السؤال باستبعاد أن يكون الاستفهام حقيقيا من المكذبين ، والجواب بزعمهم أن تأكيده بالقسم وغيره من المؤكدات اللفظية لا يقنع السائلين ، ومن عرف أخلاق العرب في زمن البعثة لم يستشكل السؤال ، إلا أن يكون السائلون من المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ يكون الاستفهام للتهكم والاستهزاء ، أو كما قيل:إنما سألوا أهو جد أو هزل ، فأرادوا من الحق لازمه وهو الجد لا مقابل الباطل ، والمعروف من أخلاق العرب في ذلك العهد أنه كان يقل فيهم الكذب لعزة أنفسهم ، وعدم خضوعهم لرياسة استبدادية تضطرهم إليه ، وكانوا يهابون الأيمان الباطلة ويخافونها ، ومن المنقول عنهم أن الأيمان الفاجرة تدع الديار بلاقع ، وناهيك بما اشتهر به النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره من الصدق والأمانة حتى لقبوه بالأمين ، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعضهم كان يسأله عن نبوته عن الشرائع ويستحلفه فإذا حلف اطمأن لصدقه واتبعه ، وإن صدق عرب الجاهلية ليقِلّ مثله في رجال الدين وغيرهم من أهل هذا العصر حتى المسلمين منهم .
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة -واللفظ للبخاري- عن أنس قال:بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال:أيكم محمد ؟ قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فقال:ابن عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك ".فقال:إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك ، قال: "سل عما بدا لك ".فقال:أسألك بربك ورب من قبلك:آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال: "اللهم نعم ".قال:أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال: "اللهم نعم ".قال:أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال: "اللهم نعم ".قال:أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ قال: "اللهم نعم ".قال:آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر .{[1713]}
ولفظ مسلم عنه:قال أنس:نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال:يا محمد ، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال: "صدق ".قال:فمن خلق السماء ؟ قال"الله ".قال:فمن خلق الأرض ؟ قال: "الله "ز قال فمن نصب هذه الجبال فجعل فيها ما جعل ؟ قال: "الله ".قال:فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك ؟ قال: "نعم ".( ثم سأله بالذي أرسله عن كل من الصلوات والزكاة وصيام رمضان والحج فأجاب بنعم ) ، ثم ولى وقال:والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلن الجنة ".{[1714]}
وزاد الإمام أحمد أنه قال له أيضا:آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤها يعبدون معه ؟ قال: "اللهم نعم "، وأنه كان أشعر ذا غديرتين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة "{[1715]} ، وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال:بئست اللات والعزى ، قالوا:مه يا ضمام ، اتق البرص والجذام ، اتق الجنون .قال:ويلكم إنهما والله ما يضران ولا ينفعان ، إن الله تعالى قد بعث إليكم رسولا ، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ، فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما .
وأقول:إن فائدة السؤال عمن خلق السماوات والأرض والجبال وما فيها ثم ذكره في القسم أن استحضار ذلك فيه يكون أحرى أن يلتزم في الجواب الصدق وتعظيم القسم والخوف من عاقبة الحنث ، وقد خفي هذا كله على المفسرين ؛ لأنهم اعتادوا إثبات العقائد الدينية بالأدلة النظرية الجدلية التي وضعت للجاحدين المجادلين بالباطل ، وجهل هذه الحقائق أعداء الإسلام من الإفرنج ، ولاسيما السياسيين رجال الكنيسة الكاثوليكية ودعاة التنصير البروتستنتي المطبوعين على الكذب ، والكسب به ، والأخذ بقول رؤسائهم:"إن الغاية تبرر الواسطة "، يعنون أن اقتراف الكذب وسائر الرذائل لأجل مصلحة الكنيسة فضلية ، جهل هؤلاء أن عباد الأصنام في الجاهلية كانوا أشد منهم احتراما للصدقفضلا عن الإسلام وكتابه ونبيه- فأباحوا لأنفسهم من افتراء الكذب على الله ، وكتابه وخاتم رسله ، ما لم يخطر مثله في بال الشيطان قبلهم فيوسوس به لغيره .
لقد كذبوا على الإسلام كذبا*** تزول الشم منه مزلزلات
أما المسلمون فإن الله يقول في كتابه{ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ{ [ النحل:15] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هديه: "يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب "رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو رضي الله عنهما .