/م103
{ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي ماكثين فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السماوات التي تظلهم والأرض التي تقلهم ، وهذا معنى قوله في آيات أخرى{ خالدين فيها أبدا} [ النساء:57] ، فإن العرب تستعمل هذا التعبير بمعنى الدوام ، وغلط من قالوا:المراد مدة دوامهما في الدنيا ، فإن هذه الأرض تبدل وتزول بقيام الساعة ، وسماء كل من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم ، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم ، قال ابن عباس:لكل جنة أرض وسماء ، وروي مثله عن السدي والحسن .
{ إلا ما شاء ربك} أي إن هذا الخلود الدائم هو المعد لهم في الآخرة المناسب لصفة أنفسهم الجهول الظالمة التي أحاطت بها ظلمة خطيئاتها وفساد أخلاقها -كما فصلناه مرارا -إلا ما شاء ربك من تغيير في هذا النظام في طور آخر ، فهو إنما وضع بمشيئته ، وسيبقى في قبضة مشيئته ، وقد عهد مثل هذا الاستثناء في سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط ، لا لإفادة عدم عمومها ، كقوله تعالى:{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله} [ الأعراف:188] ، أي لا أملك شيئا من ذلك قدرتي وإرادتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه ، ومثله في [ 10:49] مع تقديم الضر .وقوله:{ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} [ الأعلى:6 ، 7} على أن الاستثناء لتأكيد النفي ، أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ هذا القرآن الذي يقرئه إياه بقدرته وعصمه أن لا ينسى منه شيئا بمقتضى الضعف البشري ، فهو لا يقع إلا أن يكون بمشيئة الله ، فهو وحده هو القادر عليه .
{ إن ربك فعال لما يريد} فهو إن شاء غير ذلك فعله ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وإنما تتعلق مشيئته بما سبق به علمه واقتضته حكمته ، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشيء من وعده ، ولا من وعيده ، كخلود أهل النار فيها ، فإن هذا الوعيد مقيد بمشيئته ، وهي تجري بمقتضى علمه وحكمته ، ولهذا قال في مثل هذا الاستثناء من سورة الأنعام:{ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} [ الأنعام:128] وقد فصلنا في تفسير تلك الآية ما قاله العلماء من المفسرين وغيرهم من الخلاف في أبدية النار وعذابها ، ووعدنا بالعودة إليه في تفسير هذه الآية ، وسنجعله في الخلاصة الإجمالية للسورة لتبقى سلسلة التفسير هنا متصلة .