/م28
{ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} خاطبهم عليه السلام بلقب القوم مضافا إلى ضمير"يا قومي ، وحذف الياء من الرسم مراعاة للنطق "استعطافا وإيذانا بأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم ، وكلمة"أرأيتم "تستعمل عند العرب بمعنى أخبروني عن رأيكم فيما يأتي بعدها كما تقدم في سورة يونس [ 5 و 59 وغيرها] والبينة ما يتبين به الحق وتقدم الكلام عليها آنفا في تفسير الآية 17 .
أي أخبروني يا قومي الأعزاء ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إن كنت على حجة ظاهرة من ربي فيما جئتكم به تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي وكسبي البشري الذي تشاركونني فيه وإنما هي فوق ذلك .
{ وآتاني رحمة من عنده} وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة الله الخاصة لمن يهتدي بها فوق رحمته العامة لعباده كلهم .{ فعميت عليكم} قرأ الجمهور عميت بالتخفيف كخفيت وزنا ومعنى ، ومثلها{ فعميت عليهم الأنباء}[ القصص:66] وقرأها حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول ، أي فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بمالكم وجاهكم فلم تستبينوا بها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم إذ جعلتموني بشرا مثلكم ، والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيف وأخفيت لأنه مأخوذ من العمى المقتضي لأشد أنواع الخفاء .ويجوز عود الضمير إلى البينة لاقتضاء خفائها خفاء الرحمة كما هو فإن الدليل مع المدلول ، ويجوز عوده إلى الرحمة باعتبار ذكرها بعد البينة كأنه قال فخفيت عليكم رحمة الله لكم بهذه النبوة لخفاء البينة الدالة عليها ، أو لأن البينة خاصة به عليه السلام وهو العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي .
{ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} أي أنلزمكم إياها بالجبر والإكراه والحال أنكم كارهون لها إنكارا ، وجحودا واستكبارا ؟ أي لا نفعل ذلك فإن الإسلام لا يصح إلا بإيمان الإذعان ،{ وما على الرسول إلا البلاغ} [ النور:54] ، وهو أول نص في دين الله تعالى يدل على أنه ما كان ولا يصح أن يكون بالإكراه ، وأما ما فعله نصارى الإفرنج في سابق تاريخهم- وما لا يزال يفعله بعضهم في مستعمراتهم- من التنصير بإجبار الأقوام على النصرانية ، فهو مما امتازوا به على أمم الشرق في ظلمهم وتعصبهم .وهذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ورد لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها ، وإبطال لشبهتهم الأولى في أنه بشر مثلهم ، وهي مبنية على أن المساواة في البشرية تقتضي استواء أفراد الجنس ، ويدفعها ما هو معلوم بالحس والخبر [ بالضم أي الاختبار] من التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال بما هو أبعد من التفاوت بينهم وبين بعض الحيوان الأعجم ، حتى أن واحدا منهم ليأتي من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل ما يعجز عن مثله الألوف الكثيرون في القرون المتوالية ، وكل هذا في محيط التفاوت العادي ، والعلم والعمل الكسبي ، وفوقهما ما اختص الله به من شاء من عباده بما لا كسب لهم فيه فجعلهم أنبياء ورسلا له كما بيناه بالتفصيل في مباحث الوحي المحمدي .
/خ49