/م25
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فبادر الملأ أي الأشراف والزعماء الذين كفروا من قومه إلى الجواب ليكون الدهماء تبعا لهم كعادتهم ، واقترن جوابهم هنا بالفاء لأنه هو الأصل في الرد السريع ، ومثله في سورة المؤمنين وتقدم في سورة الأعراف مفصولا وهو{ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} [ الأعراف:60] لأنه هو الأصل في باب المراجعة يقال ..قال .ويسمى الاستئناف البياني ، والفرق بينهما في الموضعين من هذه القصة أن الموصول بالفاء أريد به المبادرة إلى الرد على نوح بما يبطل دعوته بزعمهم ، والمفصول ليس إلا طعنا وتخطئة هو من جملة ما رموه به لا يعلم متى وقع منهم ، وليس جوابا متصلا بالدعوة ، فيالله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن !
{ وما نراك إلا بشرا مثلنا} في الجنس لا مزية لك علينا تكون بها نذير لنا نطيعك ونتبعك مذعنين لنبوتك ورسالتك{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي أردياؤنا وأخساؤنا .يقال رذل الشيء أو المرء بضم الذال"كضخم "فهو رذل بسكونها"كضخم "وجمعه أرذل بضم الذال وجمع الجمع أراذل وهو جمع"أرذل "بصيغة التفضيل ، ويؤيده في سورة الشعراء{ واتبعك الأرذلون} [ الشعراء:111] ويعنون بهم من دون طبقة الأشراف والأكابر كالزراع والصناع والعمال ، وهم الذين يقبلون الحق إذا فهموه لعدم استكبارهم عن إتباع غيرهم .
{ بادي الرأي} أي اتبعوك في بادي الرأي أي ظاهر الذي يبدو للناظر فيه ، قبل العلم بما وراء قوادمه من خوافيه ، والتأمل في باطنه ، والغوص في أعماقه ، أو في بدئه وما يظهر منه أول وهلة قبل تكرار التفكر فيه ، والنظر في عواقبه وتواليه فالياء على هذا منقلبة عن همزة لانكسار ما قبلها .ويؤيد قراءة أبي عمرو بالهمزة [ بادىء] وقراءة الجمهور أبلغ لاحتمالها الجمع بين المعنيين .
{ وما نرى لكم علينا من فضل} أي وما نرى لك ولمن اتبعك علينا أدنى فضل تمتازون به في جماعتكم كالقوة والكثرة والعلم والرأي يحملنا على اتباعكم ، والنزول عن جاهنا وامتيازنا عليكم بالجاه والمال لمساواتكم ،{ بل نظنكم كاذبين} أي بل الأمر شر من ذلك وهو أننا نظنكم كاذبين في جملتكم:المتبوع في دعوى النبوة ، والتابعون في تصديقه ، فهي إذا ائتمار بنا تحاولون به أن تقلبوا الحقيقة فتجعلوا الفاضل مفضولا ، والشريف مشروفا ، وقد كرموا أنفسهم بعدم الجزم بالتكذيب فعبروا عنه بالظن .
أجابوه بأربع حجج داحضة:إحداهما:أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة ، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه ، وهكذا كان كل رسول من وسط قومه ، ووجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا ، والآخر متبوعا مطاعا ، لأنه ترجيح بغير مرجح .
والثانية:أنه لم يتبعه منهم إلا أراذلهم في الطبقة والمكانة الاجتماعية بادي الرأي ، لا بدليل من العقل والعلم ، وبهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى ، وهذا مرجح لرد دعوته والتولي عنه .
الثالثة:عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم من قوة عصبية أو كثرة غالبة أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأراذل من مقعدهم في السفلة ، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه .
الرابعة:أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي والتعارض يرجحون الحكم عليه وعليهم بالكذب في هذه الدعوى ، وهذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة ، وقد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه ، وهي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها ، وهذه الأخيرة طعن لهم على نوح عليه السلام أشركوه فيه مع أتباعه ولم يجابهوه به وحده ، ولم يجزموا به ، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة ، ونحن نرى ملاحدة هذا العصر كقوم نوح ومن بعده في حججهم الداحضة ، وغرورهم وعمى قلوبهم ، لا يفضلونهم بشيء إلا الغرور بفنون الإفرنج وقوتهم وجعلها حجة على تقليد أراذلهم في شر رذائلهم ، وتحقير أنفسهم وأمتهم ولغتهم ، فهم شر من قوم نوح إذا كان تقليد قوم نوح لآبائهم تعظيما لهم ، والبلاء كل البلاء عندنا من فساد أمرائنا وبشاواتنا وأغنيائنا فهم في مجموعهم أو أكثرهم كملأ نوح شر طبقات هذه الأمة وأشدها فسادا وإفسادا .
/خ49