/م1
{ وأن استغفروا ربكم} هذا عطف على ما قبله ، أي وأن اسألوه أن يغفر لكم ما كان من الشرك والكفر والإجرام والظلم{ ثم توبوا إليه} أي ثم ارجعوا إليه من كل إعراض –عنه وعن آياته- يعرض لكم بترك واجب أو فعل محرم ، نادمين منيبين مصلحين لما أفسدتم ، مستدركين ما قصرتم ، عطف التوبة بثم لأن مرتبة العمل متأخرة عن مرتبة القول ، فكم من مستغفر وهو مصر على الذنب ، وسيأتي مثله في قصة كل من هود وصالح وشعيب{ يمتعكم متاعا حسنا} المتاع كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت ، والإمتاع والتمتيع إعطاء ما يتمتع به تمتعا طويلا ممتدا ، وأما وصفه تعالى لمتاع الدنيا وتمتع أهلها بها بالقليل فهو بالإضافة إلى حياة الآخرة ، والمعنى أن تستغفروا ربكم عند كل ذنب ، وتتوبوا إليه من كل إعراض عن هدايته ، وتنكب عن سنته ، يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا مرضيا ممتدا{ إلى أجل مسمى} عنده وهو العمر المقدر لكم في علمه ، المكتوب في نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشري في عباده ، فلا يقطعه إهلاككم بعذاب الاستئصال ، ولا بفساد العمران وسلب الاستقلال ، ولا ينغصه كل ما ينغص حياة الكفار ، وذلك أن لتنغيص الحياة في الدنيا وسلب النعم من أهلها أسبابا ترجع كلها إلى الإصرار على الكفر والذنوب المحرمة ، وهي لم تكن محرمة إلا لأنها ضارة مفسدة للدين أو مزيلة للحياة أو للعقل أو للصحة أو لنظام الاجتماع المالي والمدني ، وإنما تكون مفسدة بإصرار فاعليها عليها ، فإذا كان من تعرض له يندم ويبادر إلى التوبة من قريب ويصلح ما نجم من فسادها بالعمل المضاد له ، امتنع ذلك الفساد وزال أثره ، ولهذا اشترط في التوبة المقبولة ما اشترط ووصفت في القرآن بما وصفت كقوله تعالى:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [ النساء:17] وقوله:{ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [ المائدة:39] وفي معناه آيات أخرى وقوله:{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [ آل عمران:135] وقد سبق تفسيرها في مواضعها .
وهذه السنة الربانية مطردة في ذنوب الأمم المقصودة بالقصد الأول من هذا الخطاب ، وهي فيها أظهر منها في ذنوب الأفراد [ كما بيناه في مواضع عديدة من هذا التفسير] فالأمم التي تصر على الظلم والفساد والفسوق والعصيان ، يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران ، حتى تزول منعتها ، وتتمزق دولتها ، فتنقرض أو تستولي عليها دولة أخرى ، فهذا معروف في تواريخ الأمم من أحوالها العامة في كل عصر ، وأما أقوام الرسل عليهم السلام في عصورهم فقد أهلك الله المصرين منهم على الكفر والعناد ، بعد قيام الحجة عليهم بعذاب الخزي والاستئصال ، كما بيناه في مواضعها وأقربها عهدا [ أواخر] سورة يونس عليه السلام ، والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا ، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير الآيات [ 100-103] التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة .
وأما قوله تعالى:{ ويؤت كل ذي فضل فضله} فهو عام مطلق في جزاء الأفراد في الآخرة ، مقيد في جزائهم في الدنيا ، ومعناه مع الذي قبله أنكم أيها المخاطبون بهذه الآيات من قوم محمد رسول الله وخاتم النبيين ، إن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله ورسوله وتستغفروا ربكم ، وتتوبوا إليه عقب كل ذنب يقع منكم يمتعكم بجملتكم ومجموعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة ، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله في الآخرة مطردا كاملا ، وأما في الدنيا فقد يكون هذا الجزاء جزئيا ناقصا ، ومشوبا لا خالصا ، ولا يكون عاما كاملا مطردا لقصر أعمال الأفراد ، والتعارض والترجيح في سنن الأسباب والمسببات ، وهذا من أدلة البعث وجزاء الآخرة الذي يظهر فيه عدله تعالى كاملا شاملا .
وبهذا التفسير الذي وفقنا الله تعالى له يظهر ما بيناه مرارا من أن ثمرة الدين سعادة الدنيا والآخرة كلتيهما ، وقد غفل عنه المفسرون الذين يعارضون أمثال هذه النصوص بما جعلوه أصلا يرجعونها إليها بالتأويل كأحاديث ذم الدنيا وتسميتها"سجن المؤمن وجنة الكافر "{[1735]} وما يصح منها كهذا الحديث فهو محمول على النسبة بينهما بالإضافة إلى حال كل منهما في الدنيا والآخرة ، وحديث"أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "{[1736]} وهو صحيح أيضا ، والبلاء الاختبار- يكون في النعم والنقم ، والخير والشر- يظهر استعداد الناس لكل منهما كما تراه قريبا في تفسير الآية 7 فليس مما نحن فيه مما وعد الله به رسله وبلغوه أقوامهم وصدقه الواقع ، فكانت العاقبة للمؤمنين بهم في خلافة الأرض وملكها ونعيمها ما ثبتوا على ذلك ، ومنه هذه البشارة ويقابلها قوله تعالى في الإنذار:
{ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} أي وإن تتولوا معرضين عما دعوتكم إليه من عبادة الله تعالى وعدم عبادة غيره ومن الاستغفار والتوبة من كل ذنب ، فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله ، شديد بأسه ، وهو أن يصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم ، أو ما دونه من عذاب المصرين ، وفي إثر نصر الرسول والمؤمنين ، وهذه براعة استهلال للقصص المفصلة في هذه السورة ، وأكثر المفسرين على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة الذي يكون فيه الجزاء الأكبر وهو المشار إليه في الآية التالية:إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( 4 )}