{ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليلا ( 40 ) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ( 41 )}
{ حتى إذا جاء أمرنا} هذا بيان لابتداء الغاية مما ذكر قبله من الاستعداد لهلاك قوم نوح أي وكان يصنع الفلك كما أمره ، ويقابل السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر ، حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم{ وفار التنور} اشتد غضب الله تعالى عليهم .فهو مجاز كحمي الوطيس ، أو فار الماء من التنور عند نوح لأنه بدأ ينبع من الأرض .والتنور الذي يخبز فيه الخبز معروف عند العرب .قيل إن التاء أصلية فيه وقيل زائدة وقد اتفقت فيه لغة العرب والعجم وقيل أول من صنعه حواء أم البشر وإن تنورها بقي إلى زمن نوح وإنه هو المراد هنا ، وهذا مما لا يوثق به ، والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوي يقال في الماء إذا نبغ وجرى ، وإذا غلا وارتفع ، قال في الأساس:فارت القدر ، وفارت فوارتها ، وعين فوارة في أرض خوارة ، وفار الماء من العين .ومن المجاز:فار الغضب ، وأخاف أن تفور علي ، وقال ذلك في فورة الغضب اه .
وقال الراغب في مفردات القرآن:الفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب ، نحو{ وهي تفور} [ الملك:7]{ وفار التنور} اه .والمتبادر من فوران التنور هنا اشتداد غضب الله تعالى على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم ، وقد روي فيه عن مفسري الصحابة والتابعين بضعة أقوال ما أراها إلا من الإسرائيليات ، أقربها إلى اللغة أن التنور أطلق في اللغة على تنور الفجر وأن المراد من فورانه هنا ظهور نوره وهو مروي عن علي كرم الله وجهه ، يعني أن هذا الوقت موعدهم كقوم لوط ، والثاني أن المراد منه فوران الماء من تنور الخبز وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام ، وهو يتوقف على رواية مرفوعة وينسب إلى ابن عباس رضي الله عنه ، وأقرب منه أن يكون أول نبع ماء الطوفان من الأرض .ولا يصح في هذه الآثار ولا في أمثالها رواية مرفوعة يحتج بها ، وحديث عائشة الآتي يدل على ما قلت أنه الأقرب .
{ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} قرأ حفص كلمة [ كل] هنا بالتنوين وجمهور القراء بالإضافة لما بعدها .أي حتى إذا جاء موعد أمرنا قلنا لنوح حينئذ احمل فيها أي في الفلك وهو السفينة من كل زوج اثنين ذكرا وأنثى .والتقدير على قراءة حفص:احمل فيها من كل نوع من الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض{ وأهلك إلا من سبق عليه القول} أي واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا وأهل بيت الرجل عند الإطلاق نساؤه وأولاده وأزواجهم ، والظاهر أن المستثنى منهم كفارهم إن كان فيهم كفار لأنهم يدخلون في عموم قوله:{ ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون} وإلا كان المستثنى ولده الذي ستذكر قصته قريبا{ ومن آمن} معك من قومك{ وما آمن معه إلا قليل} منهم ، ولم يبين لنا الله تعالى ولا رسوله عددهم ، فكل ما قاله المفسرون فيهم مردود لا دليل عليه كما قال ابن جرير الطبري ، كما أنه لم يبين لنا أنواع الحيوانات التي حملها ولا كيف جمعها وأدخلها السفينة ، وهي مفصلة في سفر التكوين ، وللمفسرين فيها إسرائيليات مضحكة تخالفها ، لا ينبغي تضييع شيء من العمر في نقلها وإشغال القراء بها .
/خ49