/م50
{ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي ذلك الإقرار بالحق له ، والشهادة بالصدق التي علمته منه ، ليعلم الآن – إذ يبلغه عني- أني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن بالنيل من أمانته ، أو الطعن في شرفه وعفته ، بل صرحت لجماعة النسوة بأنني راودته فاستعصم وهو شاهد ، وها أنا ذا أقر بهذا أمام الملك وملئه وهو غائب ،{ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} من النساء والرجال ، بل تكون عاقبة كيدهن الفضيحة والنكال ، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا ، وسجناه فبرأه وفضح مكرنا ، حتى شهدنا له في هذا المقام السامي على أنفسنا ، وهذا تعليل آخر لإقرارها .
ثم إنها على تبرئة نفسها من خيانته بالغيب اعترفت في الآية التالية بأنها لا تبريء نفسها من الكيد له بالسجن ، وإن ذلك كان من هوى النفس الأمارة بالسوء لأن المراد منه تذليله لها ، وحمله على طاعتها .
وفيهما وجه آخر وهو أنها تقول:ذلك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا ، وأن كل ما وقع أنني راودت هذا الشاب الفاتن الذي وضعه في بيتي ، وخلى بينه وبيني ، فاستعصم وامتنع ، فبقي عرضه أي الزوج مصونا ، وشرفه محفوظا ، ولئن برأت يوسف من الإثم فما أبرئ منه نفسي ، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، وسيأتي أن من رحمته تعالى ببعض الأنفس صرفها عن الأمر السوء وهو أعلى الدرجات ، ومنها حفظه إياها من طاعة الأمر بوازع منها ، وهي دون ما قبلها ، ومنها عدم تيسر عمل السوء ، لها بامتناع من يتوقف عليه ذلك العمل على حد [ أن من العصمة ألا تجد] .
هذا هو المتبادر من نظم الآيتين المناسب للمقام بغير تكلف ، ولكن ذهب الجمهور اتباعا للروايات الخادعة إلى أنهما حكاية عن يوسف عليه السلام يقول:ذلك الذي كان مني إذ امتنعت من إجابة الملك واقترحت عليه التحقيق في قضية النسوة ليعلم العزيز من التحقيق أني لم أخنه في زوجه بالغيب الخ ، وأنه صرح بعد ذلك بأنه لا يبرئ نفسه من باب التواضع وهضم النفس ، وهذا المعنى يتبرأ منه السياق والنظم ومرجع الضمير .ومن العجب أن بن جرير اقتصر عليه ، ولكن قال العماد ابن كثير على كثرة اعتماده عليه مرجحا للقول الأول:وهذا هو القول الأشهر الأليق الأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة اه .وشيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم المحدثين بنقد الروايات فهو ما نصر هذا القول إلا وقد فند روايات القول الآخر .
وقد علم من جملة الكلام أن يوسف عليه السلام كان مثل الكمال الإنسان الأعلى للاقتداء به في العفة والصيانة ، لم يمسه أدنى سوء من فتنة النسوة ، وأن امرأة العزيز التي اشتهرت في نساء مصر بل نساء العالم بسوء القدوة في التاريخ القديم والحديث كان أكبر إثمها على زوجها ، وكانت هي ذات مزايا في عشقها الذي كان اضطراريا لا علاج له إلا الحيلولة بينها وبين هذا الشاب الذي بلغ منتهى الكمال في الحسن والجمال ، فمن مزاياها أنها لم تتطلع إلى غيره من الرجال إجابة لداعية الجنسية للتسلي عنه بعد اليأس منه ، وأنها لم تتهمه بالجنوح للفاحشة قط ، وكل ما قالته لزوجها إذ فاجأهما لدى الباب{ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا} [ يوسف:25] تعني به همه بضربها ، وأنها في خاتمة الأمر أقرت بذنبها في مجلس الملك الرسمي إيثارا للحق وإثباتا لبراءة المحق ، فأية مزايا أظهر من هذه لمن ابتليت بمثل هذا العشق ؟ وفي تاريخ الفردوسي أديب الفرس أنه صنف قصة غرامية في زليخا ويوسف صور فيها العفة بأجمل صورها ، وزليخا [ بالفتح] اسم امرأة العزيز في أشهر تواريخنا وقيل إن اسمها راعيل .وسنفصل العبر في القصة ، في التفسير الإجمالي للسورة إن شاء الله تعالى .
تم تفسير الجزء الثاني عشر في العشر الأخير من المحرم سنة 1354
وكان البدء به في صفر سنة 1353 والله نسأل توفيقنا لإتمام
سائر هذا التفسير بما يرضاه وله الحمد والمنة .