( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) وهم إخوان أولئك الشهداء الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباع أبي سفيان في حمراء الأسد فاستجابوا لله وله من بعدما أصابهم القرح في أحد حتى أنهك قواهم .وتقدم بيان ذلك مفصلا في أول السياق .وقيل هو على عمومه .وقيل إن المراد به الشهداء .والجملة على هذين القولين ابتدائية ومدحية .
وقال الأستاذ الإمام:ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل .فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم وفضل عليهم في أنفسهم ، وهو نعمة الله عليهم وفضله الخاص بهم في دار الكرامة ، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار .ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو وليس عندي في ذلك عنه غير هذا .
وقوله:( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) جملة ابتدائية على الوجه الأول وخبرية على الوجهين الآخرين مما تقدم .وقد يقال إن أولئك الذين استجابوا لله ولرسوله في تلك الحالة هم خيار المؤمنين وكلهم من المحسنين المتقين فما معنى قوله"منهم "؟ وأجابوا عن ذلك بأن"من "هنا للتبيين لا للتبعيض ، وأن الوصف بالإحسان والتقوى للمدح والتعليل لا للتقييد ، واختار الأستاذ الإمام قول من قال إن"من "للتبعيض وقال في محلها لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج معه صلى الله عليه وسلم إلى"حمراء الأسد "أي وهم من الذين لا يضيع الله أجرهم ولكنهم لا يستحقون الأجر العظيم الذي استحقه الذين خرجوا معه وهم مثقلون بالجراح ومرهقون من الإعياء إلى استئناف قتال أضعافهم من الأقوياء .
أقول فالضمير في قوله"منهم "راجع على هذا القول للمؤمنين لا للذين استجابوا .وهو لا يظهر إلا إذا جعلنا قوله"الذين استجابوا "منصوبا على المدح والجملة المدحية معترضة .قل الأستاذ:وثم وجه آخر وهو أنه وجد في نفوس بعض المؤمنين بعد أحد شيء من الضعف فهذه الآيات كلها تأديب لهم .ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم للخروج لبوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا ، ولكن عرض لبعضهم عند الخروج بالفعل موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا فأراد من"الذين أحسنوا واتقوا ":الذين خرجوا بالفعل ، وهم بعض الذين استجابوا .والإحسان أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة والتقوى أن يتقي الإساءة والتقصير فيه .أقول:وهذا الوجه أظهر الوجوه وأحسنها .
ومما أشار إليه الأستاذ ما رواه ابن إسحاق أنه لما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو"وأن لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس "كلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني لا يبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن .فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم .فليعتبر المسلمون بهذه الآيات التي وردت في أولئك الأبرار الأخيار الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وكيف جاء وعدهم بالأجر مقرونا بوصف الإحسان والتقوى .وأنى يعتبر المغرورون المسيئون ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، والذين هم للزكاة مانعون ، والذين يبخلون بأنفسهم فلا يبذلونها في سبيل الحق ولا يتعبون ، والذي يقولون الكذب وهم يعلمون ، والذين يتولون المبطلين وينصرون ، ويشاقون أهل الحق ويخذلون ، ويحسبون أنهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون .