{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما92 ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما93} .
لما بين الله تعالى أحكام قتل المنافقين الذين يظهرون الإسلام مخادعة ويسرون الكفر ويعينون أهله على قتال المؤمنين ، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر ، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم ، ناسب أن يذكر أحكام قتل من لا يحل قتله من مؤمن ومعاهد وذمي وما يقع من ذلك خطأ فقال{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا} بينا في غير موضع أن هذا الضرب من النفي نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل أي ما كان من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن ولا من خلقه وعمله أن يقتل أحدا من أهل الإيمانوهو صاحب السلطان على نفسه والحاكم على إرادته المصرفة لعملههو الذي يمنعه من هذا القتل أن يجترحه عمدا ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ فقوله تعالى:{ إلا خطأ} منقطع معناه ما ذكرنا من الاستدراك .وقيل هو متصل معناه:ما ثبت ولا وجد قتل المؤمن للمؤمن إلا خطأ ، وهو نفي بمعنى النهي للمبالغة .
{ ومن قتل مؤمنا خطأ} بأن ظنه كافرا محاربا والكافر الحربيغير المعاهد والمستأمن والذميمن إذا لم تقتله قتلك إذا قدر على قتلك ، أو أراد رمي صيد أو غرض فأصاب المؤمن ، أو ضربه بما لا يقتل عادة كالصفع باليد أو الضرب بالعصا فمات، وهو لم يكن يقصد قتله.
{ فتحرير رقبة مؤمنة} أي فعليه من الكفارة على عدم تثبته تحرير رقبة مؤمنة أي عتق رقبة نسمة من أهل الإيمان من الرق ، لأنه لما أعدم نفسا من المؤمنين كان كفارته أن يوجد نفسا ، والعتق كالإيجاد ، كما أن الرق كالعدم .عبر بالرقبة عن الذات لأن الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه ، كلما أمره ونهاه ، أو يكون مسخرا له كالثور الذي يوضع النير على رقبته لأجل الحرث ، ولهذا قال جمهور العلماء لا يجزئ عتق الأشلّ ولا المقعد لأنهما لا يكونان مسخرين ذلك التسخير الشديد في الخدمة الذي يحب الشارع إبطاله وتكريم البشر بتركه ، ومثلهما الأعمى والمجنون الذي قلما يصلح للخدمة وقلما يشعر بذل الرق ، وروي عن مالك أنه لا يجزئ عتق الأعرج الشديد العرج والأكثرون على أنه يجزئ كالأعور ، وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه .والحر والعتيق في أصل اللغة كريم الطباع ، ويقولون الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد ، وإنما يكونون لؤماء لأنهم يساسون بالظلم ، ويسامون الذل ، والتحرير جعل العبد حرا .
واختلفوا في تحديد معنى المؤمنة هنا فروي عن ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم من مفسري السلف وفقهائهم أنها التي صلت وعقلت الإيمان ويظهر هذا في الكافر الذي يسلم دون من نشأ في الإسلام .وقال آخرون من فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي أن كل من يصلى عليه إذا مات يجوز عتقه في الكفارة ، وهذا هو التعريف المناسب لزمنهم الذي كثر فيه الأرقاء الناشئون في الإسلام .
وروى ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة قال:كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال له ( قم فحرر ) ورواه ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا .وروي عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء في سرية حمل عليه بالسيف قال لا إله إلا الله ، فضربه .
ثم قال{ ودية مسلمة إلى أهله} أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية يدفعها إلى أهل المقتول .فالكفارة حق الله ، والدية ما يعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه أو عن حقهم فيه .وهي مصدر ودي القتيل يديه وديا ودية ( كعدة وزنة من الوعد والوزن ) ويعرفها الفقهاء بأنها المال الواجب بالجناية على الحر في نفس أو فيما دونها .وقد أطلق الكتاب الدية وذكرها نكرة فظاهر ذلك أنه يجزئ منها ما يرضي أهل المقتول وهم ورثته قلّ أو كثر ، ولكن السنة بينت ذلك وحددته على الوجه الذي كان معروفا مقبولا عند العرب .وأجمع الفقهاء على أن دية الحر المسلم الذكر المعصوم ( أي المعصوم دمه بعدم ما يوجب إهداره ) مئة بعير مختلفة في السن ، وتفصيلها في كتب الفقه .وقالوا يجوز العدول عن الإبل إلى قيمتها والعدول عن أنواعها في السن بالتراضي بين الدافع والمستحق .وإذا فقدت وجبت قيمتها .ودية المرأةومثلها الخنثىنصف دية الرجل .والأصل في ذلك أن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أكبر من المنفعة التي تفوت بفقد الأنثى فقدرت بحسب الإرث .وظاهر الآية أنه لا فرق بين الذكر والأنثى .
وفي حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه ( أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياؤه المقتول ، وإن في النفس الدية مئة من الإبل )إلى أن قال بعد ذكر قود الأعضاء( وعلى أهل الذهب ألف دينار ) وهذا يدل على أن دية الإبل على أهلها التي هي رأس مالهم ، وأن على أهل الذهب الدية من الذهب ، وظاهر الحديث أن الدية على الذين يتعاملون بالنقد كأهل المدن تكون من الذهب والفضة وأن هذا أصل لا قيمة للإبل .وسيأتي مزيد لبحث الدية في دية الكافر .والحديث روي مرسلا عند أبي داود والنسائي وموصولا عند غيرهما واختلف فيه وعمل به الجماهير .والاعتباط القتل بغير سبب شرعي من اعتبط الناقة إذا ذبحها لغير علة .والقود ( بالتحريك ) القصاص أي يقتل به إلا إذا عفا عنه أولياء المقتول .
وقوله تعالى:{ إلا أن يصدقوا} معناه أن الدية تجب على قاتل الخطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب حينئذ لأنها إنما فرضت لهم تطيبا لقلوبهم وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتل صاحبهم وإرضاء لأنفسهم عن القاتل حتى لا تقع العداوة والبغضاء بينهم .فإذا طابت نفوسهم بالعفو عنها حصل المقصود ، وانتفى المحذور ، لأنهم يرون أنفسهم بذلك أصحاب فضل ويرى القاتل لهم ذلك ، وهذا النوع من الفضل والمنة لا يثقل على النفس حمله كما يثقل عليها حمل منة الصدقة بالمال ، وقد عبر عنه بالتصدق للترغيب فيه .
{ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن} أي فإن كان المقتول من أعدائكم والحال أنه هو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يحاربونهم وقد آمن ولم يعلم المسلمون بإيمانه لأنه لم يهاجر وإنما قتله عياش في حال خروجه مهاجرا لأنه لم يعلم بذلك .ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه إذا قتل{ فتحرير رقبة مؤمنة} أي فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم وقيل أن ديته واجبة لبيت المال ، ولو صح هذا لما سكت عنه الكتاب في معرض البيان .
{ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما عليه الدول في هذا العصر كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخرين ميثاقا على ذلك وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدول ، ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى{ فدية مسلّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} أي فالواجب في قتل المعاهد والذمي هو كالواجب في قتل المؤمن:دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين ، كما حرم قتل المؤمنين ، وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي وإن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرق النزاع .وسيأتي ما ورد من الروايات المرفوعة والآثار في ذلك .
وقد قدم هنا ذكر الدية وأخر ذكر الكفارة وعكس في قتل المؤمن ، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله تعالى في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال{ إلا أن يصدقوا} لأن من شأن المؤمن العفو والسماح ، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم ، ولم يستثن هنا لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم ، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم ، وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة .ومن محاسن نظم الكلام وتأليفه أن يؤخر المعطوف الذي له متعلق على ما ليس له متعلق وما متعلقاته أكثر على ما متعلقاته أقل وهذه نكتة لفظية لتأخير ذكر الدية في حق المؤمن إذا تعلق بها الوصف وهو قوله{ مسلّمة إلى أهله} والاستثناء وهو قوله{ إلا أن يصّدّقوا} .
ثم إنه لم يقل هنا في الدية{ مسلّمة إلى أهله} ويدل ذلك على أن القاتل لا يكلف أن يوصل الدية إلى أهل المقتول ألبتة وهم في غير حكم المسلمين إذ ربما يتعذر أو يتعسر عليه ذلك ، ولأنها حق لهم فعليهم أن يحضروا لطلبه وأخذه ، وقد يكون من شروط العهد أن تعطى إلى رؤساء قوم المقتول وحكامهم الذين يتولون عقد العهود والمواثيق أو إلى من ينيبونه عنهم في دار الإسلام ، فوسع الله في ذلك .هذا ما ظاهر لي في هذه الإطلاقات والقيود ونكتها ولم أر من بينها .
هذا هو الذي تعطيه الآية في دية غير المسلم إذا لم يكن محاربا وناهيك به عدلا .وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين لاختلاف الرواية وعمل الصدر الأول فيه ، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( عقل الكافر نصف دية المسلم ){[567]} رواه أحمد والترمذي وحسنه .وفي لفظ"قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين "{[568]} رواه أحمد والنسائي وابن ماجة .وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال معروف والجمهور على قوله .والمراد بالعقل الدية لأن الأصل فيها عند العرب الإبل تعقل في فناء دار أهل المقتول .ولفظ الكافر في الحديث عام يشمل الكتابي وغيره ورواية أهل الكتابين لا تصلح لتخصيصه ولا لتقييده فإنها صادقة في نفسها ومفهوم اللقب ليس بحجة .وفي رواية أخرى للحديث ( كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم .قال وكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال:إن الإبل قد غلت .قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق ( الفضة ) اثني عشر ألفا ( أي من الدراهم ) وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألف شاة وعلى أهل الحلل مئتي حلة .قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية .رواه أبو داود{[569]} .
وروى الشافعي والدارقطني والبيهقي وابن حزم عن سعيد بن المسيب قال كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمان مئة .وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف .والمراد أربعة آلاف درهم وثمان مئة درهم .والأربعة الآلاف هي نصف دية المسلم على ما كان عليه العمل في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثلثها بحسب تعديل عمر ولذلك قال الشافعية إن دية الذمي ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم .واحتجوا بأثر عمر وهو ضعيف ومعارض للحديث المرفوع .ولو صح لما وجدنا له مخرجا إلا فهم عمر وغيره من الصحابة أن ما كان على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن حتما ، وأنهم علموا منه أن الأمر في الدية اجتهادي ومداره على التراضي كما أشرنا إلى ذلك في بيان ظاهر عبارة الآية .
وذهب الزهري والثوري وزيد بن عليّ وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كدية المسلم .وروي عن أحمد أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته .واحتج القائلون بالمساواة بظاهر إطلاق الآية في أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة ونوزعوا في هذا الاحتجاج .وبما رواه الترمذي عن ابن عباس وقال غريب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودى العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمريوكان لهما عهد من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشعر به عمروبدية المسلمين .وثم روايات أخرى عنه في ذلك وبما أخرجه البيهقي عن الزهري أن دية اليهودي والنصراني كانت في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثل دية المسلم وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف في بيت المال .ثم قضى عمر بن العزيز بالنصف وألغى ما كان جعل معاوية .وأجيب بأن حديث ابن عباس في إسناده أبو سعيد البقال وهو سعيد المرزبان ولا يحتج بحديثه ، وحديث الزهري مرسل ومراسيله لا يحتج بها لأنه لسعة حفظه لا يرسله إلا لعلة .على أن هذا في المعاهد وحق الذمي أقوى من حق المعاهد لخضوعه لأحكامنا .
وجملة القول إن الروايات القولية والعملية مختلفة متعارضة ولذلك اختلف فيها الفقهاء وظاهر الآية أن أمر الدية منوط بالعرف وبالتراضي والأقرب أن اختلاف السلف في العمل كان لأجل هذا .
هذا وإن ظاهر الآية أن الدية على القاتل ولكن بينت السنة أن العاقلة هم الذين يدفعون الدية عنه سواء كانت إبلا أو نقدا ، وهم عصبته وعشيرته الأقربون ( وتسمى العاقلة الآن العائلة بالهمزة وهو من تحريف العامة ) وإنما جعلت السنة الدية على العاقلة لا على القاتل لأن الخطأ قد يتكرر فيذهب بمال الرجل كله ولأجل تقرير التضامن بين الأقربين وإذا عجزت العاقلة من عصبة النسب ثم السبب عن دفعها جعلت في بيت المال ، والله أعلم .
{ فمن لم يجد} الرقبة التي يعتقها كأن انقطع الرقيق كما هو مقصد الإسلام ،وهذه العبارة تشعر بهذا المقصدأو لم يجد المال الذي يشتريها به من مالكها ليحررها من رقهوحذف المفعول يدل على الأمرين معا{ فصيام شهرين متتابعين} أي فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين لا يفصل بين يومين من أيامهما إفطار في النهار فإن أفطر يوما بغير عذر شرعي استأنف وكان ما صامه قبله كأن لم يكن .ولم يفرض على من لا يستطيع الصيام إطعام ستين مسكينا كما فرضه في كفارة الظهار .وبعض الفقهاء يقيس هذه الكفارة على تلك ومنهم من لا يقيس كالشافعي وهو الظاهر ، وما يدرينا أن هذا فرض قبل ذاك فلم يخطر في بال أحد ممن نزل في عهدهم أن للصيام بدلا على من عجز عنه وهو إطعام مسكين عن كل يوم .
{ توبة من الله} أي شرع الله لكم ما ذكر توبة منه عليكم فهو يريد به أن يتوب عليكم لتتوبوا وتطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضي إلى قتل الخطأ{ وكان الله عليما حكيما} أي عليما بأحوال نفوسكم وما يصلحها من التأديب حكيما فيما يشرعه لكم من الأحكام ، ويهديكم إليه من الآداب ، فإذا أطعتموه فيه صلحت نفوسكم وتزكت وصارت أهلا لسعادة الدنيا والآخرة .
بعد هذا أذكر ما عندي في الآية عن الأستاذ الإمام وهو بيان لروح الهداية فيها لا لأحكامها ومدلول ألفاظها فإنه استغنى عن هذا بشرح ما قاله الجلال فيه .قال رحمه الله تعالى ما مثاله:
هذه الآية جاءت بعد أن ورد ما ورد في المذبذبين الذين أذن الله بقتلهم إلا من استثنى للتناسب وتتميم أحكام القتل فذكر هنا أن من شأن المؤمن أن لا يقتل مؤمنا لأن الإيمان مانع ذلك وبيانه من وجهين أحدهما:أن المؤمن إنما يصح إيمانه ويكمل إذا كان يشعر بحقوق الإيمان عليه وهي حقوق لله وحقوق للعباد ، ومن حدود حقوق المؤمنين أن في القصاص حياة لما فيه من الزجر عن القتل ، فالمؤمن الصادق يشعر بهذا الحق وهذه الحياة وإنه إذا أخل بحقوق الدماء فقد استهزأ بحياة الأمة ومن استهزأ بحياة الأمة ولم يحترم أكبر حقوقها ولم يبال بما يقع فيه المؤمنون من الخطر فأمره معلوم فإنه باعتدائه على مؤمن قد هدم ركنا من أركان قوة الإيمان وحزبه وذلك آية عدم المبالاة بقوة الإيمان وقوامه ، والمؤمن غيور على الإيمان فلا يصدر منه ذلك أي ليس من شأنه أن يصدر عنه .أقول:ويؤيد ما قاله الأستاذ قوله تعالى:{ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [ المائدة:35] .
ثم ذكر سبب العقوبة على الخطأ في الأمور العظيمة كأمر القتل ، وهو أن الخطأ فيه لا يخلو من التهاون وعدم العناية بالاحتياط ، ومثل الخطأ في هذا الأمر النسيان ، ولولا أن من شأنهما أن يعاقب الله عليهما لما أمرنا تعالى بالدعاء بأن لا يؤاخذنا عليهما بقوله في آخر سورة البقرة{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [ البقرة:286] ولم يخبرنا أنه رفع عنا المؤاخذة عليهما في الدنيا والآخرة .وقد ثبت بنص القرآن أن آدم نسي ومع ذلك سميت مخالفته معصية وعوقب عليها .ولكن ورد في الحديث ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ){[570]} وهو معقول ولا ينافي ما قلناه ، فإن عقاب قتل الخطأ ليس هو عقاب قتل العمد وهو{ النفس بالنفس} [ المائدة:45] وأما في الآخرة فلا يؤاخذنا بما نفعله مخالفا لأمره إذا نسينا أو أخطانا فيرجى أن يستجيب الله دعاءنا .
أقول والحديث الذي ذكره ورد هكذا في كتب الفقه والأصول ولا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث وقد رواه ابن ماجه{[571]} وابن أبي عاصم بلفظ ( وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه ) وقد وثقوا رواته وصححه ابن حبان .