/م88
{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم} هؤلاء فريق من الذين لم يهتدوا بالإسلام ، ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله بحد الحسام ، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين ، لا يهمهم إلا سلامة أبدانهم ، والأمن على أرواحهم وأموالهم ، فهم يظهرون لكل من المتحاربين أنهم منهم أو معهم ، روى ابن جرير عن مجاهد أنهم ناس كانوا يأتون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيسلمون رياء فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يؤمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا اه .
وروي عن ابن عباس أنه قال:كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام فيقرّب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء فيقول المشركون له قل"هذا ربي "للخنفساء والعقرب .
وروي عن قتادة أنهم حي كانوا بتهامة قالوا:يا نبي الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا،وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم فأبى الله ذلك عليهم فقال{ كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها} ، يقول كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
وروي عن السدي أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين ينقل الحديث بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمشركين .ولا يبعد أن يكون كل من ذكر من هذا الفريق وأن يكون منهم غير من ذكر .
ونزيد في بيان معنى قوله:{ كل ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها} أنهم كانوا يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين إما بإظهار الإسلام وإما بالعهد على السلم وترك القتال ومساعدة الكفار على المؤمنينثم يفتنهم المشركون أي يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين وهو الإركاس ، فيرتكسون أي فيتحولون شر التحول معهم ، ثم يعودون إلى ذلك النفاق والارتكاس المرة بعد المرة ، أي فهم قد مردوا على النفاق فلا ينبغي أن يختلف المؤمنون في شأنهم ، وقد بين الله حكمهم بقوله:
{ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي فإن لم يعتزلوكم بترككم وشأنكم والتزامهم الحياد ، ويلقوا إليكم السلم أي زمام المسالمة بالصفة التي تثقون بها حتى كأن زمامها في أيديكم ، ( وفسره بعضهم بالصلح ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس ، إن لم يفعلوا ذلك ويؤمن به غدرهم وشرهم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، إذ ثبت بالاختبار أنه لا علاج لهم غير ذلك ، فقد قامت الحجة لكم على ذلك ، وذلك قوله تعالى:{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا} أي جعلنا لكم حجة واضحة وبرهانا ظاهرا على قتالهم ، فقد روي عن غير واحد أن السلطان في كتاب الله تعالى هو الحجة .وهذا يقابل قوله تعالى في من اعتزلوا وألقوا السلم{ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} وكل من العبارتين تؤيد الأخرى في بيان كون القتال لم يشرع في الإسلام إلا للضرورة ، وأن هذه الضرورة تقدر بقدرها في كل حال .
قال الرازي:قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ، ونظيره قوله تعالى:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ...} [ الممتحنة:8] وقوله:{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [ البقرة:190] فخص الأمر بالقتال بمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا اه .
والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين من يقول إن في الآيات نسخا .ولا يظهر النسخ فيها إلا بتكلف فما وجه الحرص على هذا التكلف ؟ ويأتي في هذه الآية ما ذكرناه عقب التي قبلها في قتل المرتدين وغيرهم .