المفردات:
فتحرير رقبة: فعتق رقبة
يصدقوا: يتصدقوا بالدية ،بالتنازل عنها .
ميثاق: عهد .
التفسير:
92- وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا ..أي: وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه ،وأذن له فيه من الأشياء البتة{[48]}
لقد حرص الإسلام على حفظ العقول والأعراض والأموال والأرواح وقد حرم الله قتل النفس .في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:'' ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ،والنفس بالنفس ،والتارك لدينه المفارق للجماعة''{[49]} .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ... أي: وما صح وما استقام لمؤمن صادق الأيمان ،فيما أتاه ربه في شريعة الإسلام ،أن يقتل إنسانا مؤمنا بغير حق إلا خطأ .
وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ...أي: ومن وقع منه القتل الخطأ ،فالجواب عليه في هذه الحالة أن يعتق نفسا مؤمنة ،وان يؤدي إلى ورثة القتيل دية يقتسمونها كما يقتسمون الميراث ،والدية عوض عن دم القتل ،وهي مائة من الإبل او قيمتها بالدراهم أو الدنانير ،وقد قدرها عمر رضي الله عنه بألف دينار على من يتعاملون بالذهب ،واثني عشر ألف درهم على من يتعاملون بالفضة .
روى أبو داود عن عمر رضي الله عنه: ( على أهل الإبل مائة بدنة ،وعلى أهل البقر مائتا بقرة ،وعلى أهل الشاة ألف شاة ،وعلى أهل الحلل مائتا حلة ) وتتحمل عشيرة القاتل عنه دفع الدية ،فإن لم تكن له عاقلة ؛وجبت على بيت المال ،فإن لم تكن فيه ؛وجبت في مال القاتل ،ولا تسقط هذه الدية ،إلا في حال تنازل أهل القتيل عنها ،وهذا التنازل نوع من المعروف وكل معروف صدقة{[50]}
قال تعالى: إلا ان يصدقوا .أي تجب الدية إلا أن يعفو أهل القتيل بالتنازل عنها تطوعا وصدقة ،هذا إذا كان المقتول خطأ مؤمنا: من قوم مؤمنين .
فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ...أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار معادين للمؤمنين- وهو مؤمن- فالواجب في هذه الحالة ،عتق رقبة مؤمنة ،وفكاكها من قيد الرق ،وإطلاق حريتها ؛كفارة عن هذا القتل الخطأ ،ولا دية ...لأنها تعود على أعداء المسلمين المحاربين ،ولا يجوز أن يدفع المسلمون أموالهم إلا عدوهم ؛ليتقوى عليهم بسببها ،ويحاربهم بها .
روى ابن جرير الطبري عن قتادة: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ .ولا دية لأهله ؛من أجل أنهم كفارا ،وليس بينهم وبين الله عهد ولا ذمة .
وعن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون ،فيمر بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل فيمن يقتل ،فيعتق قاتله رقبة ولا دية له .
وقال آخرون: بل عني به الرجل من أهل الحرب ،يقدم دار الإسلام فيسلم ،ثم يرجع إلى دار الحرب ،فإذا مر بهم الجيش من أهل الإسلام هرب قومه ،وأقام ذلك المسلم منهم فيها ،فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا .
روى الطبري في رواية أخرى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ .هو المؤمن يكون في العدو من المشركين ،يسمعون بالسرية من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ،فيفرون ،ويثبت المؤمن فيقتل ،ففيه تحرير رقبة مؤمنة{[51]} .
والروايات متقاربة في المعنى ،وكلها تثبت معنى الآية أوة الفقرة من الآية .
قال ابن كثير:
أي: إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياءه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم ،وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة ولا غير .
وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ...أي: وإن كان المقتول خطأ ،من قوم كفار بينكم- أيها المسلمون- وبينهم عهد وميثاق ،وليسوا أعداء لكم ؛فالواجب-في هذه الحالة- المبادرة بأداء دية تسلم إلى أهل القتيل ؛تعويضا عن دمه ،كما يجب-كذلك- عتق نفس مؤمنة ؛لأن دماء هؤلاء قد عصمت بحكم ما بينهم مبين المسلمين من ذمة وميثاق .
وقد روى ابن جرير الطبري: أن أهل التأويل اختلفوا في صفة القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ،أهو مؤمن أو كافر ؟فقال بغضهم: هو كافر إلا أنه لزمت قاتله ديته ؛لأن له ولقومه عهدا ،فوجب أداء ديته إلى قومه ؛للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين ،وأنها مال من أموالهم ولا يحل للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم ،وقال آخرون: بل مؤمن فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين ؛لأنهم أهل ذمة .
وعلق الطبري على القولين بقوله:
وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية ،قوله: من قال عني بذلك المقتول من أهل العهد ( سواء أكان مؤمنا أم كافرا ) لان الله أبهم ذلك ،ولم يقل وهو مؤمن ،فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيل الماضي ذكره قبل ،الدليل الواضح على صحة ما قلنا ،فإن ظن ظان أن في قوله تبارك وتعالى: فدية مسلمة إلى أهله .دليلا على أنه من أهل الإيمان ؛لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن ،فقد ظن خطأ ؛وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء ؛لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار ،وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء .وذهب قوم إلى أن ديات أهل العهد والميثاق على النصف أو على الثلث من ديات أهل الإيمان ،قال الطبري: والراجح أن دياتهم وديات المؤمنين سواء{[52]} .
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره:
وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ...أي: فإن كان القتيل ،أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ،فلهم دية قتيلهم ،فإن كان مؤمنا ؛فدية كاملة ،وكذا إن كان كافرا أيضا ؛عند طائفة من العلماء ،وقيل: يجب في الكافرنصف دية المسلم ،وقيل ثلثها ؛كما هو مفصل في كتاب الأحكام ،ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة{[53]}
وفي التفسير الوسيط ما يأتي:
وفي هذا القسم من أقسام القتل الخطأ ،لم يوصف المقتول بالإيمان أو الكفر؛مما يشعر بأن وجود عهد وذمة بين المسلمين ،يسوى بين الجميع في الدية والفدية ،وبذلك يرتفع الإسلام إلى أعلى مستوى من رعاية حقوق المعاهدين والذميين ،وهو تشريع في رعاية العهد ،وحرمة الدم ولا يسامى أبدا ،و حرمة الدم الإنساني واضحة في إيجاب عتق الرقيق في جميع حالات القتل{[54]} .
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ... أي: فمن لم يجد الرقيق بأن لم يملكه ،ولا يملك ما يوصله إليه؛بأن عجزعن ثمنه ، أو عجز عن شرائه مع اليسار بثمنه ،فالواجب على القاتل في هذه الحالة الانتقال إلى البدل ،وهو صيام شهرين متتابعين: لا يقع بين أيامهما إفطار بغير عذر يبيح الفطر .
قال بن كثير:فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ...أي:لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما ،فإن أفطر من غير عذر من مرض ،أو حيض ،أو نفاس؛استأنف؛واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين ..
توبة من الله ... يعني:تجاوزا من الله لكم؛إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم ،من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها ،بإيجابه صوم شهرين متتابعين{[55]} والصوم المتتابع فيه قمع الشهوة ،وإظهار التوبة ،وصفاء النفس ،و إظهار الأدب بامتثال أمر الله وطاعة أمره .
وقال ابن كثير في تفسير الآية:
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام ؛هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظاهر ، على قولين:
أحدهما: نعم ،كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ،وإنما لم يذكر ههنا؛لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير؛فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام ،لما فيه من التسهيل و الترخيص .
والقول الثاني: لا يعدل إلى الطعام ؛لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة .
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ...أي: كان الله ولا يزال ،عظيم العلم بما يصلح عباده ،فيما يكلفهم من فرائضه ؛ بالغ الحكمة في كل ما يشرعه من الأحكام .