/م27
ثم إنه بعد بيان هذه الحقيقة والتقرب إليه ، بين له حقيقة أخرى وهي ما يجب للناس ولاسيما الإخوة بعضهم على بعض من احترام الدماء وحفظ الأنفس فقال:{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ} .أي بين له حاله وما تقتضيه من عدم مقابلته على جنايته بمثلها ، مؤكدا ذلك بالقسم وبجملة النفي الاسمية والمقرون خبرها بالباء ، وهو أنه إن بسط يده ليقتله بها ، لا يجزيه بالسيئة سيئة مثلها ، وإن هذه الجناية لا تأتي منه ولا تتفق مع صفاته وشمائله ، ذلك بأنه لم يعبر عن نفسه بصيغة الفعل المضارع المنفي كما عبر بالماضي المثبت عن عمل أخيه ، - وهو المتبادر في مقابلة الشيء بضده- بل قال ( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ) أي لست بالذي يتصف بهذه الصفة المنكرة المنافية لتقوى الله تعالى ، ولا شك أن نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل ، الذي هو عبارة عن الوعد بالترك ، لأنه عبارة عن وعد مؤكد ببيان سببه .
ثم أكده تأكيدا آخر ببيان علته وهو قوله{ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أن يراني باسطا يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق ، فإن ذلك يسخطه ويكون سبب عقابه ، لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ، ويربيهم بفضله وإحسانه ، فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسدة لهذه التربية ومعارض لها في بلوغ غاية استعدادها ، ومن يخاف الله لا يعتدي هذا الاعتداء .وهذا الجواب من الأخ التقي يتضمن أبلغ الموعظة وألطف الاستعطاف لأخيه العازم على الجناية ، ولا يقال:إنه كان يجوز له الدفاع عن نفسه ولو بقتل الصائل عليه- حتى يحتاج إلى الجواب بأن شرع آدم لم يكن يبيح ذلك ، فإن هذا من الرجم بالغيب ، والدفاع قد يكون بما دون القتل ، وليس في الكلام تصريح بعدم الدفاع البتة ، وإنما فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل ، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار .قيل:يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال:إنه كان حريصا على قتل صاحبه{[743]} رواه أحمد والشيخان وغيرهم .