/م116
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي إن ربك الذي رباك وعلمك أيها الرسول بما أنزل إليك الكتاب مفصلا وبين لك فيه ما لم تكن تعلم من الحق ومن شؤون الخلق هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن سبيله القويم وهو أعلم بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم إذ الضلال ما يصد عن سبيله ويبعد السالك عنه ، والاهتداء ما يجذبه إليه ويقربه منه ، فكيف لا يكون أعلم به من نفسه وأصدق في الحكم عليه من حسه ، وهو فوق ذلك محيط بكل شيء علما ؟
ومن مباحث اللفظ أن البصريين والكوفيين من النحاة اضطربوا في إعراب قوله تعالى:{ أعلم من يضل} لمجيئه على خلاف المعهود الشائع من اقتران معمول اسم التفضيل بالباء كقوله تعالى في مثل هذه الآية في سورة القلم{ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} ( الأنعام 117 ) فكان أبعد إعرابهم له عن التكلف أن الباء حذفت منه اكتفاء باقترانها بمقابلة المتصل به وهو قوله:{ أعلم بالمهتدين} ومخالفة المعهود في أساليب اللغة لا يكاد يقع في كلام بلغاء أهلها إلا لنكتة يقصدونها به وكلام رب البلغاء ومنطقهم باللغات أولى بذلك .والنكت منها لفظي كالاختصار والتفنن في الأسلوب ومنها معنوي وهو أعلى .وقد يكون من نكت مخالفة المعهود الكثير تنبيه الذهن للتأمل كمن يريد إيقاف سالك الطريق في مكان منه لفائدة له في الوقوف كما أرى الله تعالى نبيه موسى النار في الشجرة بجانب الطور فحمل أهله على المكث فيه لما علمنا من حكمة ذلك .وقد بينا هذا النوع من النكت من قبل وجعلنا منه عطف المرفوع على المنصوب في قوله تعالى:{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون} ( المائدة 69} أي وكذا الصائبون أو الصائبون كذلك ، خص هؤلاء بإخراجهم عن نسق من قبلهم في الإعراب لأن الناس لم يكونوا يعرفون أنهم بقايا أهل كتاب{[986]} وقد يكون حذف الباء في قوله:{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله} للتنبيه إلى التأمل والتفكر في كون الله تعالى أعلم بأحوالهم لأنها هي المقصودة هنا بالذات بدليل سابق الكلام ولاحقه إذ هو فيهم ، وما ذكر العلم بالمهتدين إلا لأجل التكملة والمقابلة ولذلك عطف على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد ، فتأمل .ولو جازت الإضافة هنا نحو:أفضل من حج واعتمر ، لكان الكلام احتباكا تقديره هو أعلم من يضل ومن يهتدي وهو أعلم بالضالين وبالمهتدين ، فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر ، وليس المانع من جواز الإضافة هنا كون صلة ( من ) فعلا مضارعا لا ماضيا كالمثال الذي أوردناه ونظائره ، بل المانع هو أن المضاف في مثل هذا الكلام من جنس المضاف إليه وهو ممتنع في الآية لأنه تعالى لا جنس له ولو اقترن الموصول هنا بالجار فقيل هو أعلم ممن يضل عن سبيله لجزمنا بالاحتباك .