{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} هذا ضرب آخر من أحكامهم السخيفة في التحريم والتحليل وهو خاص بما في بطون بعض الأنعام من اللبن والأجنة .روي أن المراد بالأنعام هنا البحائر وحدها أو هي والسوائب:كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث وكانت إذا ولدت ذكرا حيا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث وإذا ولدت أنثى تركوها لأجل النتاج .وبعض مفسري السلف لم يقيدوا هذه الأنعام بالبحائر والسوائب فيمكن حمل المطلق على المقيد ، ويحتمل أنهم كانوا يقولون ذلك في أنعام أخرى يعينونها بغير وصف البحيرة أي مشقوقة الأذن والسائبة التي تسيب وتترك الآلهة فلا يتعرض لها أحد وعن الشعبي وعكرمة وقتادة وغيرهم أن البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء .فإن قيل إن الآية في شأن ما في بطون هذه الأنعام لا في نفسها فلا يصح إدخال قول هؤلاء في تفسيرها قلنا يصح ذلك بل هو المتبادر من بعض القراءات .
قرأ ابن عامر"وإن تكن "بالتاء و "ميتة "بالرفع ، وابن كثير يكن بالياء وميتة بالرفع ، وأبو بكر عن عاصم يكن بالياء وميتة بالنصب .فأما الأول فليس في قراءته إلا تأنيث الفعل"تكن "لتأنيث خبره وأما قراءة ابن كثير فقالوا إن فيها حذف الخبر والتقدير وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة ، وتذكير الفعل لأن الميتة بمعنى الميت ، وهذا يصدق بتلك الأنعام نفسها وبأجنتها التي في بطونها ، ومثل ذلك ما إذا جعلت يكن بمعنى يوجد أي فعلا تاما .وقالوا في تقدير قراءة عاصم:وإن تكن المذكورة ميتة وهو يشمل تلك الأنعام وما في بطونها أيضا .بل قال بعضهم مثل هذا في قراءة الباقين ولكن الذي يتبادر إلى ذهن العربي الفصيح من قوله تعالى:{ وإن يكن ميتة} بالنصب أن المراد وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام ميتة .فالفائدة المعنوية في اختلاف القراءات ما ذكرنا وما عداه فاختلاف وجوه جائزة في اللغة .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله خالصة فيه وجوه:أحدها أن التاء فيه للمبالغة في الوصف كراوية وداهية وطاغية فلا يقال أنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر ، وثانيهما أن المبتدأ وهو"ما في بطون هذه الأنعام "مذكر اللفظ مؤنث المعنى لأنه المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى ، وثالثها أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة ، ورابعها أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ"لذكورنا ".
{ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} يقال جزاه كذا وبكذا أي جعله جزاء له على عمل عمله ، قال تعالى:{ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} ( الفرقان 75 ) الخ وقال:{ فذلك نجزيه جهنم} ( الأنبياء 29 ) وقال{ هل تجزون إلا ما كنتم تعلمون} ( النمل 90 ) وقال:{ هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} ( النمل 90 ) وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازي عليه لا ما يجازي به ، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية ، كان كأنه عين العمل ، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال ، وبهذا يتجلى لك هنا معنى جعل جزاء المفترين على الله في التشريع وصفهم ولا سيما إذا جعل الوصف هنا بمعنى الصفة التي هي حالة النفس وصورتها ، وقد بينا هذا المعنى في التفسير مرارا .
ومعنى الجملة مع تعليلها سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشؤونهم وأعمالهم ومناشئها من صفاتهم بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي ، فإن لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين من عليين ، أو سجين في أسفل سافلين ، كما أن صفة الجسم السائل الخفيف تقتضي بسنن الله أن يكون فوق الجسم الثقيل كما ترى في الزيت إذا وضع في إناء مع الماء .وما يعرف الناس من درجات الحرارة في موازينها المعروفة مثال موضح للمراد ، فمنشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها العمل عليها .وإذا جعل الوصف مصدرا فلا بد من تقدير معموله كأن يقال سنجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع ، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب:هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} ( النحل 116 ) الآية .
قال الزمخشري في مادة وصف الأساس:ومن المجاز وجهها يصف الحسن ولسانه يصف الكذب وذكر هذه الآية ثم قال:وهذه ناقة تصف الإدلاج قال الشماخ:
إذا ما أدلجت وصفت يداها *** لها الإدلاج ليلة لا هجوع{[1024]}
وفي روح المعاني أن الجملة كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون:وصف كلامه الكذب إذا كذب:وعين تصف السحر أي ساحرة ، وقد يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له .قال المعري:
سرى برق المعمرة بعد وهن *** فبات برامة يصف الملالا