/م25
وقد بين الله تعالى حال هذا الفريق الذي لم يكن حظه من الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا كحظ النعم من سماع أصوات البشر فقال:{ ومنهم من يستمع إليك} أيها الرسول إذا تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله منذرا يوم القيامة{ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا} أي وجعلنا على آلة الفهم والإدراك من أنفسهم – وهي قلب الإنسان ولبه – أغطية حائلة دون فقهه ، ونفوذ الأفهام إلى أعماق علمه ، وفي آذانهم وقرا أي ثقلا أو صمما حائلا دون سماعه بقصد التدبر واستبانة الحق منه .ومعنى هذا الجعل ما مضت به سنة الله تعالى في طباع البشر من كون التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه يكون مانعا له باختباره من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق ، فهو لا يستمع إلى متكلم ولا داع لأجل التمييز بين الحق والباطل ، وإذا وصل إلى سمعه قول مخالف لما هو دين له أو عادة لا يتدبره ولا يراه جديرا بأن يكون موضوع المقابلة والتنظير مع ما عنده من عقيدة أو رأي أو عادة .وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية من تشبيه الحجب والموانع المعنوية ، بالحجب والموانع الحسية ، فإن القلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الكن أو الكنان وهو الغطاء حتى لا يدخل فيه شيء ، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو الصمم لأن سمعها وعدمه سواء .والأكنة جمع كنان كالأسنة جمع سنان ، والوقر بالفتح الثقل في السمع والصمم بالكسر الحمل ، يقال وقر سمعه يقر فهو موقور ، إذا كان لا يسمع ، وأوقر الدابة فهي موقرة .
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} يقول الله تعالى في هؤلاء الذين لا يسمعون ما يتلو عليهم الرسول سماع تدبر ولا يفقهون كنه ما يدعو إليه:وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك وحقية ما تدعو إليه لا يؤمنوا بها لأنهم لا يفقهونها ولا يدركون كنه المراد منها ، لعدم التوجه أو لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ .
{ حتى إذا جاءوك يجادلونك} أي حتى إذا صاروا إليك أيها الرسول مجادلين لك في دعوتك{ يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ( 25 )} أي يقولون لإصرارهم على كفرهم وانتفاء فقههم:ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين من الأمم ، أي قصصهم وخرافاتهم .يعني أنهم لا يعقلون مما في القرآن من أنباء الغيب في قصص الأمم مع رسلهم إلا أنها حكايات وخرافات تسطر وتكتب كغيرها ، فلا علم فيها ولا فائدة منها ، وربما جعلوا القرآن كله من هذا القبيل ، قياسا لما لم يسمعوا على ما سمعوا ، أو لغير القصص على القصص .وهكذا شأن من ينظر إلى الشيء نظرا سطحيا لا يستنبط منه علما ولا برهانا ، ويسمع الكلام جرسا لفظيا لا يتدبره ولا يفقه أسراره ، فمثل هذا وذاك كمثل الطفل الذي يشاهد ألعاب الصور المتحركة يديرها قوم لا يعرف لغتهم فكل حظه مما يري من المناظر ومن المكتوبات المفسرة لها لا يعدو التسلية .ولو عقل هؤلاء المقلدون الغافلون قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم منها آيات بينة على صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذر عظيمة مما فيها من بيان سنن الله تعالى في الأمم ، وعاقبة أمرهم مع الرسل ، وغير ذلك من الحكم والعبر .
وإن في أهل هذا العصر من لا يفكر في إتيان الأمي الناشئ بين الأميين بخلاصة أخبار أشهر الرسل مع أقوامهم لأنه يرى أو يسمع أن ما في القرآن من ذلك يشبه ما في غيره من كتب اليهود والنصارى وكتب التاريخ ، ولا يرى في هذا ما يبعثه إلى البحث في الفرق بين ما في القرآن وما في غيره ، وهو من وجوه أهمها في باب إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم كونه ظهر على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يطلع على شيء من كتب الدين ولا كتب التاريخ ، وقد احتج بهذا على قومه فلم يستطع أحد ممن انتصبوا لعداوته أن يرفع في الإنكار عليه رأسا أو ينبس في الرد عليه بكلمة{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [ هود:49] .
فإذا كان في أهل هذا العصر من لا يفكر في هذه الآية البينة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بقصص القرآن لما ذكرنا من السبب ، ومن لا يفكر في إعجاز القرآن ببلاغته بعد أن عاش النبي ثلثي عمره قبله ولم يكن في كلامه ما هو معجز – فإن كفار قريش لم يكونوا يستطيعون إنكار كون محمد صلى الله عليه وسلم كان أميا مثلهم وأنه لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل مع أقوامهم ، ولا كان ممتازا بالبلاغة والفصاحة فيهم ، ولكن كان بعضهم يجهل ما يعرفه أهل هذا العصر من كون تلك القصص كانت صحيحة لا من أساطير الأولين وأوضاعهم الخرافية التي لا يثبت لها أصل ، ولأجل هذا سأل بعضهم اليهود عنها ، كما كان بعضهم يجهل ما فيها من الآيات والعبر لعدم تدبرها .قال أبو عبيدة معمر بن المثنى:الأسطورة لغة الخرافات والترهات ، وهي التي تجمع على أساطير ، وقال الأخفش واحد الأساطير أسطورة .