/م54
{ وكذلك نفصل الآيات} أي ومثل ذلك التفصيل الواضح وعلى نحوه نفصل الآيات المنزلة في بيان الحقائق التي يهتدي بها أهل النظر الصحيح والفقه الدقيق لما فيها من العلم والحكمة ، والموعظة والعبرة .
{ ولتستبين سبيل المجرمين ( 55 )} أي ولأجل أن يظهر بها طريق المجرمين ، فيمتازوا بها عن جماعة المسلمين ، قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم ولتستبين بالتاء وسبيل بالرفع ، أي ولتظهر سبيل المجرمين وتعرف – والسبيل يؤنثه أهل الحجاز ويذكره بنو تميم وجاء التنزيل باللغتين – وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي ولتتبين أيها الرسول طريق المجرمين فلا يخفى عليك شيء منها ، وقرأ الباقون وليستبين بالياء ورفع سبيل على لغة التذكير ، ففائدة اختلاف القراءات هنا لفظية وهي تذكير السبيل وتأنيثها ومجيء فعل الاستبانة لازما ومتعديا ، يقال بان الشيء واستبان بمعنى وضح وظهر ويقال استبنت الشيء بمعنى استوضحته وتبينته أي عرفته بينا .
وأما فائدة الجمع بين الغيبة والخطاب فيها فهي أن تفصيل الآيات هو في نفسه موضح لسبيل المجرمين وأنه ينبغي للمخاطب بذلك أولا بالذات ثم لغيره أن يستبينه منها بتأملها وفهمها والاعتبار بها ، فكم من آية بينة في نفسها يغفل الناس عنها{ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [ يوسف:105] والعطف في قوله تعالى:« ولتستبين » قيل إنه عطف على علة محذوفة لقوله:« نفصل » لم يقصد تعليله بها بخصوصها وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر ، أي وكذلك نفصل الآيات لما في تفصيلها من الأحكام والحكم ، وبيان الحجج والمواعظ والعبر ، ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين ، فيكون من عطف الخاص على العام .وقيل إنه علة لفعل مقدر هو عين المذكور ، أي ولأجل أن تستبين سبيل المجرمين نفصل الآيات ، وذلك أنه بين سبيل المؤمنين فعلم منه أن ما خالفه هو سبيل المجرمين .لأن الشيء يعرف بضده .بل بين قبله سبيل المجرمين من الكفار أيضا .
وقال الزمخشري:ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده ، ولنستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل .اه ويسرني أن هذا القول يؤيد ما قدمته في بيان أصناف الناس في زمن نزول السورة وما أرشدت إليه الآيات في معاملة كل صنف منهم وأن ما قلته خير مما قاله ولله الحمد .وفي الآية من محاسن إيجاز القرآن ما لا يخفى .وسيأتي مثل هذا التعبير في قوله تعالى في هذه السورة:{ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} [ الأنعام:105] وقوله:{ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} [ الأعراف:174] ولا أذكر أن في القرآن غيرهما .