/م54
قال .
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} السلام والسلامة مصدران من الثلاثي يقال سلم فلان من المرض أو من البلاء سلاما وسلامة ، ومعناهما البراءة والعافية ، والسلام والمسالمة مصدران من الرباعي أيضا يقال سالمه أي بارأه وتاركه ومنه ترك الحرب .والسلام من أسماء الله تعالى يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من نقص وعجز وفناء وغير ذلك من عيوب الخلق وضعفهم .واستعمل السلام في المتاركة وفي التحية معرفة ونكرة ، يقال سلام عليكم والسلام عليكم ، وهو بمعنى الدعاء بالسلامة من كل ما يسوء .ويفيد تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله من المسلم ، فهو آية المودة والصفاء ، وثبت في التنزيل أن السلام تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جل وعلا وملائكته الكرام ويحيي بها بعضهم بعضا ، وهو تحية الإسلام الذي هو دين السلم والمسالمة{ يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة} [ البقرة:208] .
واختلفوا في هذا السلام هنا:أهو تحية أمر الله تعالى رسوله أن يبدأ بها الذين يؤمنون بآياته إذا جاؤوه إكراما خاصا بهم مخالفا للأصل العام ، وهو كون القادم هو الذي يلقي السلام ، أم هو تحية منه تعالى أمر رسوله أن يبلغهم إياهم عنه ، أم هو إخبار عنه تعالى بسلامتهم وأمنهم من عقابه ، قفى عليه ببشارتهم بمغفرته ورحمته ؟ روي الأول عن عكرمة فهو خاص بمن قال إن الآية نزلت فيهم .والثاني عن الحسن والثالث عن ابن عباس وهو أظهرها ، والمراد بالآيات آيات القرآن ، المشتملة على حجج الله وآياته في الأنفس والآفاق ، وهذه الآية معطوفة على آية النهي{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم} الخ والآية التي بينهما معترضة بين فيها ابتلاء كبراء المشركين بضعفاء المؤمنين ورغبتهم في طردهم .
وقوله تعالى:{ كتب ربكم على نفسه الرحمة} تقدم مثله في الآية الثانية عشرة من هذه السورة ، وكتابتها إيجابها على ذاته العلية وله أن يوجب على نفسه ما شاء ، ولا يوجب عليه أحد شيئا .فالرحمة من شؤون الربوبية الواجبة لها لا عليها ، وإن في نظام الفطرة البشرية ، وما سخر الله للبشر من أسباب المعيشة المادية ، وما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية ، ومن هداية الوحي الوهبية ، لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية ، وتربية عباده بها في حياتهم الجسدية والروحية .بل هي التي وسعت كل شيء ، ولكن كتابتها أمر آخر خص به بعض الخلق ، كما يأتي في سورة الأعراف ، وقد بين لنا سبحانه أصلا من أصول الدين ، في هذه الرحمة المكتوبة للمؤمنين ، فقال:{ أنه من عمل منكم سوءا بجهالة} الخ – قرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب « أنه » بفتح الهمزة وقرأه الباقون « إنه » بكسرها ، فأما قراءة الفتح فعلى البدل من الرحمة أي بدل البعض من الكل إذ ذكر من أنواع الرحمة المكتوبة ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحي وهو حكم من يعمل السوء من المؤمنين وكيف يعامله الله تعالى ، وأما سائر أنواعها ، وما هو إحسان غير مكتوب منها ، فيمكن أن يستدل عليهما بالنظر في الأنفس والآفاق وهو ما أشرنا إليه في تفسير كتابتها .وأما قراءة الكسر فعلى الاستئناف النحوي أو البياني ، كأنه قيل ما هذه الرحمة ؟ أو ما حظنا منها في أعمالنا ؟ وهل من مقتضاها أن لا نؤاخذ بذنب ، وأن يغفر لنا كل سوء بلا شرط ولا قيد ؟ فجاء الجواب:أنه – أي الحال والشأن – من عمل منكم عملا تسوء عاقبته وتأثيره لضرره الذي حرمه الله لأجله حال كونه متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء كغضب شديد حمله على السب أو الضرب ، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك عرض ، ...– فالجهالة هنا هي السفه والخفة ، التي تقابلها الروية والحكمة والعفة ، وقيل إنها الجهل الذي يقابله الظلم لأن كل من يعمل السوء لا بد أن يكون جاهلا فإما أن يجهل ما فيه من القبح والضرر ، وإما أن يجهل سوء عاقبته وقبح تأثيره في نفسه ، وما يترتب على ذلك من سخط ربه وعقابه ، ذهابا مع الأماني واغترارا بتأول النصوص ، ومن هنا قال الحسن البصري كل من عمل معصية فهو جاهل .
وحاصل المعنى على القراءة الأولى كتب ربكم على نفسه الرحمة الخاصة التي هي المغفرة والرحمة لمن تاب من بعد عمل السوء بجهالة وأصلح عمله ، وعلى الثانية إن سألتم عن حظكم من هذه الرحمة فالجواب أنه من عمل منكم سوءا بجهالة .
{ ثم تاب من بعده وأصلح} أي ثم رجع عن ذلك السوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه ، نادما عليه خائفا من عاقبته ، وأصلح عمله بأن أتبع ذلك العمل السيئ التأثير في النفس عملا يضاده ويذهب بأثره من قلبه ، حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها وتصير كما كانت أهلا لنظر الرب وقربه{ فأنه غفور رحيم ( 54 )} أي فشأنه سبحانه في معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة فيغفر له ما تاب عنه ويتغمده برحمته وإحسانه .
وهذه قاعدة من قواعد الدين وأس من أساسه أمر الله تعالى رسوله أن يبلغها لمن يدخلون فيه ليهتدوا بها ، حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته فيحملهم الغرور على التفريط في جنب الله والغفلة عن تزكية أنفسهم والمبادرة إلى تطهيرها من إفساد الذنوب لها ، إلى أن تحيط بها خطيئتها ، وقد بينا هذه القاعدة مرارا في تفسير الآيات المقررة لها ، تارة بالإيجاز وتارة بالإطناب وتارة بالتوسط بينهما .وكان أوسع ما كتبناه فيها تفسير قوله تعالى:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} – إلى قوله –{ أليما} [ النساء:16] فيراجع في الجزء الرابع من تفسير وندع أصحاب المذاهب الكلامية والفقهية من المفسرين يتجادلون في كون الآية مؤيدة لمذهب المعتزلة أو غير مؤيدة له فإن هذه المجادلات تصرف المشتغلين بها عن الموعظة والحكمة التي أنزلها الله تعالى لبيانهما .
وقد فتح همزة « فأنه » في الآية من فتح همزة « أنه » من القراء سوى نافع فإنه قرأها بالكسر كباقي القراء .وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية وهي قراءة الأعرج والزهري وأبي عمرو الداني .