/م50
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض} أي ومثل ذلك الفتن – أي الابتلاء والاختيار – العظيم ، الذي دل عليه النظم الكريم ، بمعونة وقائع الأحوال ، وما كان عند نزول السورة من التفاوت بين المؤمنين والكفار ، فتنا بعضهم ببعض ، أي جعلنا بحسب سنتنا في غرائز البشر وأخلاقهم بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله غير مشوبة بشيء من الشوائب التي تلتبس بها في العادة ، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة بفتنهما بالنار أو بعرضهما على الفتانة ( حجر الصائغ ) .
{ ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} أي ليترتب على هذا الفتن أن يقول المفتونون من الأقوياء المستكبرين ، في شأن الضعفاء من المؤمنين ،:أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين من الله عليهم فخصهم بهذه النعمة العظيمة من جملتنا ومجموعنا أو من دوننا ؟ المن الأثقال بنعمة عظيمة أو نعم كثيرة ، والاستفهام للإنكار والتعجيب ، يعنون أنه لا يتأتى ذلك لأنهم هم المفضلون عند الله تعالى بما أعطاهم من الغنى والثروة ، والجاه والقوة ، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء ، قياسا على ما أعطاهم قبله من الجاه والثراء ، ومن شواهد هذا القياس ما حكاه الله عنهم في قوله:{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [ الأحقاف:11] وقوله:{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [ الزخرف:31] الخ قال المفسرون أي عظيم بالمال والجاه كالوليد بن المغيرة المخزومي من مكة وهي إحدى القريتين أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف وهي القرية الأخرى .– وقيل المراد بعظيم مكة أبو جهل – والشواهد على هذا القياس الحملي كثيرة عنهم وعن غيرهم .
وقد رد الله تعالى عليهم بقوله:{ أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 )} وهذا الاستفهام للتقرير على أكمل وجه لبنائه على إحاطة علمه تعالى ، ووجه الرد أن الحقيق بمن الله وزيادة نعمة إنما هم الذين يقدرونها قدرها ، ويعرفون حق المنعم بها ، فيشكرونها له ، باستعمالها فيما تتم به حكمته وتنال مرضاته – لا من سبق إنعامه عليهم فكفروا وبطروا ، وعتوا عن أمره واستكبروا ، بل هؤلاء جديرون بأن يسلب منهم ، ما كان أنعم به عليهم ، وبهذا مضت سنته في عباده ، ولولا ذلك لكانت النعم خالدة تالدة لا تنزع ممن أوتيها ؛ بل تزاد وتضاعف له وإن كفر بها ، وإذا لما افتقر غني ، ولا ضعف قوي ، ولا ذل عزيز ، ولا ثل عرش أمير ، وهل الحق الواقع إلا خلاف هذا ؟ وهل فتن أولئك الكبراء إلا بالواقع لهم من الغنى والقوة فظنوا لقصر نظرهم ، وغرورهم بحاضرهم ، وجهلهم بسنة الله في أمثالهم ، أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم ، وتفضيلا لهم على غيرهم ، حتى إن أحدهم ليحسب أن هذا حق له على ربه في الدنيا والآخرة ، وان كان لا يؤمن بالآخرة ، كما بين تعالى ذلك بقوله:{ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} [ فصلت:50] وأنزل في العاصي بن وائل من طغاة قريش{ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} [ مريم:77] أي في الآخرة – الآيات – وقال بعض المغرورين بهذا القياس:
لقد أحسن الله فيما مضى*** كذلك يحسن فيما بقى
وقد كشف الله تعالى هذا الغرور في آيات كثيرة وضرب لأصحابه الأمثال كمثل ذي الجنتين في سورة الكهف ، وزجر أهله وأضدادهم في سورة الفجر ، وفصل لهم الحقيقة في سورة الإسراء ، بقوله:{ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء} [ الإسراء:20] .
وهذا الرد على المشركين هنا يدل على أنه لا يدوم لهم من النعم ما اغتروا به ، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه ، بل لا بد من أن تنعكس الحال ، فيسلب أولئك الأقوياء ما أعطوا من القوة والمال ، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين ، فيكونوا هم الأئمة الوارثين ، لأن الله تعالى وفقهم للإيمان بما في أنفسهم من الاستعداد للشكر وهو يوجب المزيد{ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [ إبراهيم:9] وكذلك كان ، وصدق وعد الرحمن ، وظهر إعجاز القرآن ، وما بعد بيان الله تعالى من بيان ، وإننا نرى الناس عن هدايته غافلون ، وبوجوه إعجازه جاهلون ، حتى إن فيمن يسمون المسلمين منهم ، من يفتتن بشبهة أولئك المشركين الداحضة ، فيجعلها حجة ناهضة ، تارة على تفضيل الأغنياء على الفقراء ، وتارة على تفضيل الأمم القوية على الأمم الضعيفة ، جاهلين أن الفضيلة الصحيحة في شكر النعم باستعمالها فيما يرضي الرب ، لا في أعيان النعم التي ترى في اليد ، فرب غني شاكر ، ورب فقير صابر ، وكم من منعم سلب النعمة بكفرها ، وكم من محروم أوتي النعم بالاستعداد لشكرها ، ثم زيدت بقدر شكره لها ، وكم من قوي أضعفه الله ببغيه ، وكم من ذليل أعزه الله يإيمانه وعدله .
هذا وإن ظاهر حكاية قول المفتونين من المشركين يدل على أن المراد بقوله{ فتنا بعضهم ببعض} فتنا كبراء المشركين بضعفاء المؤمنين – أي اختبرنا به حالهم في كون تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلو في الأرض لا عن حجة ولا شبهة مما يظهرونه ، ومفهومه أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم ، وقد زعم بعض المفسرين أنهم فتنوا وإن لم تبين الآية كيف كان ذلك إذ لم تحك شيئا عن لسانهم .وقد ورد في الاختبار العام ، في سورة الفرقان{ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [ الفرقان:20] أي جعلنا كلا منكم اختبارا للآخر في اختلاف حاله معه بالغنى والفقر ، أو القوة والضعف ، أو الصحة والمرض ، أو العلم والجهل ، أو غير ذلك:هذا يحتقر هذا ويبغي عليه ، وهذا يحسد هذا ويكيد له ، فاصبروا فإنه لا يسلم من هذه الفتن إلا الصابرون .نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين .