وقوله:( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) أي:ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض ( ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غالب من اتبعه في أول البعثة ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قوم نوح لنوح:( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) الآية [ هود:27] ، وكما قال هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [ عن تلك] المسائل ، فقال له:فهل اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم؟ قال:بل ضعفاؤهم . فقال:هم أتباع الرسل
والغرض:أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون:( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) ؟ أي:ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيرا - ويدعنا ، كما قالوا:( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) [ الأحقاف:11] ، وكما قال تعالى:( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) [ مريم:73] .
قال الله تعالى في جواب ذلك:( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) [ مريم:74] ، وقال في جوابهم حين قالوا:( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) أي:أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إليه صراطا مستقيما ، كما قال تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) [ العنكبوت:69] . وفي الحديث الصحيح:"إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "
وقال ابن جرير:حدثنا القاسم:حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله:( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) الآية ، قال:جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل ، في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا:يا أبا طالب ، لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا ، كان أعظم في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، وتصديقنا له . قال:فأتى أبو طالب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه بالذي كلموه فقال عمر بن الخطاب ، - رضي الله عنه -:لو فعلت ذلك ، حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلى ما يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله عز وجل ، هذه الآية:( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم [ ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه] ) إلى قوله:( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) قال:وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء:ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القاري وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد من غني حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء . ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء:( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) الآية . فلما نزلت ، أقبل عمر ، - رضي الله عنه - ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله ، عز وجل:( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا [ فقل سلام] ) الآية