/م52
ثمّ إِنّ عبارة ( ولا تطرد ) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أُولئك ،لا التناوب معهم ،والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب ،وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا .
مكافحة التّفكير الطّبقي:
في هذه الآية إِشارة إِلى واحد من احتجاجات المشركين ،وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقرّ ببعض الامتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء ،إِذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )منقصة لهم أي منقصة !مع أنّ الإِسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الامتيازات الزائفة الجوفاء ،كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أُولئك عنه ،غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستنداً إِلى أدلة حية ،فيقول: ( ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ){[1186]} .
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إِلى هؤلاء الأشخاص إِشارة خاصّة ،بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء ،أي دائماً ،وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء ،بل هو لذات الله وحده ،فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه ،وليس ثمّة امتياز أسمى من هذا .
يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إِلى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بل لقد تكرر اعتراضهم على النّبي بشأن اجتماع الفقراء حوله ،ومطالبتهم إِياه بطردهم .
في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إِلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته ،وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة ،ويرفضون كل دعوة تستهدف إِلغاء هذه القيم والمعايير .
في سيرة النّبي نوح( عليه السلام ) نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له: ( وما نراك اتبعك إِلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي ){[1187]} واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته .
إِنّ واحداً من دلائل عظمة الإِسلام والقرآن ،وعظمة مدرسة الأنبياء عموماً ،هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات ،وراحت تحطم هذه الامتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة ،لتعلن أنّ الفقر ليس نقصاً في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر وخباب وبلال ،كما أنّ الثروة ليست امتيازا اجتماعيا أو معنوياً لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين .
ثمّ تقول الآية: إنّه ليس ثمّة ما يدعو إِلى إِبعاد هؤلاء المؤمنين عنك ،لأنّ حسابهم ليس عليك ،ولا حسابك عليهم: ( ما عليك من حسابهم من شيء ،وما من حسابك عليهم من شيء ) ،ولكنّك مع ذلك إِذا فعلت تكون ظالماً: ( فتطردهم فتكون من الظّالمين ) .
يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من «الحساب » هنا .
منهم من يقول: إِنّ المقصود هو حساب رزقهم ،أي أنّهم وإِن كانوا فقراء فإِنّهم لا يثقلون عليك بشيء ،لأن حساب رزقهم على الله ،كما أنّك أنت أيضاً لا تحملهم ثقل معيشتك ،إِذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء .
غير أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيداً ،لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال ،كما يقول كثير من المفسّرين ،أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك ،مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول ؟فالجواب: إِنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) الفقراء بالابتعاد عن الله بسبب فقرهم ،زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفيه والتوسعة عليهم في معيشتهم ،بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إِلاّ لضمان معيشتهم والوصول إِلى لقمة العيش .
فيرد القرآن على ذلك مبيناً أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك ،فان حسابهم على الله ،مادام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين ،فلا يجوز طردهم بأي ثمن ،وبهذا يقف في وجه احتجاج أشراف قريش .
وشاهد هذا التّفسير ما جاء في حكاية النّبي نوح( عليه السلام ) التي تشبه حكاية أشراف قريش ،فأُولئك كانوا يقولون لنوح: ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) فيرد عليهم نوح قائلا: ( وما علمي بما كانوا يعملون إِنّ حسابهم إِلاّ على ربّي لو تشعرون ،وما أنا بطارد المؤمنين ){[1188]} .
من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرئ يظهر الإِيمان بدون أي تمييز ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إِلاّ وجه الله ،وكل ذنبهم هو أنّهم فقراء صفر اليدين من الثروة ،ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة الأشراف !
امتياز كبير للإِسلام:
إِنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت اتساعا مضحكاً بحيث إِنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب ،فبإمكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأُمور .
إِلاّ أنّ القرآن ،في هذه الآية وفي آيات أُخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحقّ ،بل ولا لرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه في أن يطرد أحداً أظهر إِيمانه ولم يفعل ما يوجب إِخراجه من الإِسلام ،وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده ،ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبداً .
والكلام هنا على «الطرد الديني » لا «الطرد الحقوقي » فلو كانت إِحدى المدارس وقفاً على طبقة خاصّة من الطلاب ،وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط القبول فيه ،ثمّ فقد بعض تلك الشروط ،فان طرده وإِخراجه من تلك المدرسة لا مانع فيه ،كذلك لو أنّ مدير مدرسة أُعطيت له صلاحيات معينة لغرض إِدارة شؤونها ،فله كل الحقّ في الاستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية مصالح المدرسة ( فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية ممّا يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي ) .
الآية الثّانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأُمور اختبار لهم ،فإِذا لم يجتازوا الامتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة ،فالله يمتحن بعضهم ببعض: ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ) .
«الفتنة » تعني هنا الامتحان{[1189]} وأي امتحان أصعب ممّا يمر به الأغنياء الذين كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا ،فلا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم ،بل حتى أنّهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم ،أمّا الآن فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن ،ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون بالطبقة الدنيا .
ثمّ تضيف الآية أنّ الأمر يصل بهؤلاء إِلى أنّهم ينظرون إِلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار ( ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ){[1190]} ؟!
ثمّ تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أنّ هؤلاء الأشخاص أُناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل ،كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقبولها ،فأي نعمة أكبر ،وأي شكر أرفع ،ولذلك رسخ الله الإِيمان في قلوبهم: ( أليس الله بأعلم بالشّاكرين ) .