{ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} الظاهر المتبادر أن المعنى ثم يرد أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم الحق ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم فيكون بمعنى آية ألم السجدة التي تقدمت آنفا .وقيل إن المعنى ثم يرد أولئك الرسل إلى ربهم بعد إتمام ما وكل إليهم بموت جميع الناس فيموتون هم أيضا ، ذكره الرازي وهو ضعيف من وجوه – منها مخالفته لآية السجدة ، ومنها أن الكلام في البشر وبيان الدين لهم وإقامة حججه عليهم ، ومنها أن الحساب الذي ختمت بذكره الآية حساب البشر لا حساب ملك الموت وأعوانه .
وفي الجملة مباحث لفظية ومعنوية يتضح بها ما فيها من البلاغة .
الأول:أن في الكلام التفاتا من الخطاب إلى الغيبة لأن ما قبله خطاب منه سبحانه للمكلفين ، والتفاتا آخر من التكلم إلى الغيبة وإلا لقال ثم رددناكم أو رددناهم على الالتفات – الخ ونكتة الالتفات تفهم من المباحث الأخرى .
الثاني:أنه جعل فعل الرد مبنيا للمفعول للدلالة على أن له تعالى رسلا أخرى – والظاهر أنهم غير رسل الموت ورسل الحفظ – يردون العباد إليه بعد البعث عند ما يحشرونهم بأمره للحساب والجزاء ، وهذه أظهر نكت الالتفات .
الثالث:ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله « ردوا » للكل المدلول عليه بأحد من قوله:« إذا جاء أحدكم الموت » وأن هذا هو السر في مجيئه بطريق الالتفات والإفراد أولا والجمع آخرا ، لوقوع التوفي على الإفراد والرد على الجملة والمجموع .ونحن نرى أنه لا حاجة إلى تكلف القول برجوعه إلى الكل المدلول عليه بأحد ، والالتفات عبارة عن جعل ضمير الخطاب الذي للجماعة ضمير غيبة لهم .
الرابع:أن هذا الرد يكون بعد البعث فكان الأصل أن يعبر عنه بفعل الاستقبال كما في آية السجدة{ ثم تردون} وعبر هنا بالماضي لإفادة تحقق الوقوع حتى كأنه وقع وانقضى .
الخامس:من فوائد الالتفات من التكلم إلى الغيبة ذكر اسم الجلالة ووصفه بما وصف به ولا يخفى أن تأثيره في النفس هنا أعظم من تأثير ضمير التكلم .
السادس:قالوا إن الرد إلى الله وهو الرد إلى حكمه وقضائه ، وحسابه وجزائه ، أو إلى موقف الحساب ، ومكان العرض والسؤال ، لأن الرد إلى ذاته غير معقول وغير ممكن ، وهذا التعليل لا يحتاج إليه العربي القح لفهم ما ذكر من الآية ، ولا الدخيل في العربية إلا من كان مطلعا على مذهب غلاة أهل الوحدة ، ولو صح مذهبهم لكان سياق الكلام مانعا أن يكون مرادا من العبارة كما يمنعه من أسلوبه وصف اسم الذات بما وصف به ، ما ختمت به الآية وهاك بيانه:
السابع:أن وصف الاسم الكريم بمولاهم الحق يدل على أن ردهم إليه حتم لأنه هو سيدهم الحق ، الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق .والحق في اللغة هو الثابت المتحقق ، وهذا الوصف لا يتحلى به أحد من الخلق إلا على سبيل العارية الموقتة ، فما كان تولي بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة ، أو ملك التصرف والسياسة ، فمنه ما هو باطل من كل وجه ، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات ولا بقاء له ، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره في سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا ، فثبت بذلك أن الله عز وجل هو مولاهم الحق وحده ، وما كان من ولاية غيره الباطلة من كل وجه ، أو الباطلة في ذاتها دون صورتها الموقتة ، فقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده ، كما زال كل ملك وملك صوريين كانا للخلق في هذا العلم وصاروا إلى يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا وظهر يومئذ أن الملك الصوري والحقيقي لله الواحد القهار .
{ ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ( 62 )} ألا حرف استفتاح يذكر في أول الكلام لتنبيه المخاطب لما بعده إذا كان مهما لئلا يفوته منه شيء ، وقوله:{ له الحكم} يفيد الحصر ، أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شيء في ذلك اليوم ، لا على سبيل الصورة والإضافة الموقتة ولا على سبيل الحقيقة{ إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم} [ النمل:80]{ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [ الطور:8]{ قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون} [ الزمر:43] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وفسر كونه تعالى أسرع الحاسبين بأنه يحاسب العباد كلهم في أسرع زمن وأقصره لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فاسم التفضيل فيه على غير بابه إذ لا محاسب هنالك غيره ، أو هو بالنسبة إلى المحاسبين أو الحاسبين في غير الآخرة ، ولفظ الحاسبين اسم الفاعل من حسب الثلاثي لا من حاسب ، والحساب مصدر لكل منهما ، يقال حسبه حسبا وحسابا وحاسبه محاسبة وحسابا .والمحاسبة أو الحساب في المعاملة مبني على الحسب والحساب الذي هو العد والإحصاء لأن المحاسب يحصي على من يحاسبه العدد في المال أو ما نيط به من الأعمال .والمراد هنا أنه أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها ، وقد تقدم تفسير{ والله سريع الحساب} [ البقرة:202] فيراجع في ج2 من التفسير .