وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم ،فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح .
ويحتمل أيضاً أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر ،فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور ،والآية تركز على هذا القسم بالذات .
في الآية الأخيرة يشير القرآن الكريم إِلى آخر مراحل عمل الإِنسان ،فيقول: ( ثمّ ردّوا إِلى الله مولاهم الحق ) أي عادوا إِلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم ،واختتم ملفهم الحاوي على كل شيء .
وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإِصدار الأحكام بيد الله: ( ألا له الحكم ) .
وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاخب فانّ الله سريع في النظر فيها: ( وهو أسرع الحاسبين ) .
لقد جاء في بعض الرّوايات: «إِنّه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار حلب شاة » أي أنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة{[1199]} .
وكما قلنا في تفسير الآية ( 202 ) من سورة البقرة ،إِنّ إِجراء الحساب من السرعة بحيث إِنّه يمكن أن يتمّ في لحظة واحدة بالنسبة للجميع ،بل إِن ذكر فترة حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك ،وعلى هذا نقرأ في رواية أُخرى: «إِن الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر »{[1200]} .
والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية ،وهو أنّ أعمال الإِنسان تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به ،تماماً مثل الماكنة التي تسجل مقدار حركتها في عداد متصل بها .
وبتعبير أوضح ،لو كانت هناك أجهزة دقيقة جداً لاستطاعت أن تسجّل في عين الإِنسان عدد النظرات الآثمة ،وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والافتراءات والتهم والطعون التي اقترفتها ،أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيهبالإِضافة إِلى روحهجهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة .
وإِذا جاء في بعض الرّوايات أنّ محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم القيامة فإِن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب ،بل هو طول زمن المحاسبة عليهم ،إِذ لابدّ لهم من الإِجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم بشأن الأعمال التي ارتكبوها ،أي أن ثقل مسؤولياتهم ولزوم إِجابتهم على الأسئلة لإِتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم .
يؤلف مجموع هذه الآيات درساً تربوياً كاملا لعباد الله في إِحاطة علمه تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع أعمال البشر ،وقيام كتبة أُمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات معينة بالنسبة لكل منهم ،وبعثهم يوم القيامة ،ومن ثمّ محاسبتهم محاسبة دقيقة وسريعة .
كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثمّ لا يراقب أعماله ،يظلم دون وازع ،ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين ؟
هل يجتمع كل هذا مع الإِيمان والاعتقاد على صعيد واحد ؟