{ لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلّبنّكم أجمعين} أي أقسم لأفعلن كذا وكذا في عقابكم والتنكيل بكم ، وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف كأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس ، ثم لأصلبن كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوهة لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا ، أو بالخروج عن سلطاننا ، والترفع عن الخضوع لعظمتنا .وقد تقدم الكلام على هذه الألفاظ في العقاب الذي هدد به البغاة من سورة المائدة .ومن المعقول ما قاله بعض المفسرين من كون اتهام فرعون للسحرة بالمكر والكيد له وللمصريين ، وبتواطئهم مع موسى للإدالة منهم لبني إسرائيل – إنما كان تمويها على قومه المصريين لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان ، ويقع ما خافه وقدره واتهم به موسى عليه السلام ، فهو على عتوه على الخلق ، وعلوه في الأرض ، قد خاف عاقبه إيمان الشعب ، وافتقر على ادعائه الربوبية إلى إيهامهم بأنه لا ينتقم من السحرة إلا حبا فيهم ، ودفاعا عنهم ، واستبقاء لاستقلالهم في وطنهم ، ومحافظتهم على دينهم وكذلك يفعل كل ملك وكل رئيس مستبد في شعب يخاف أن ينتقض عليه باجتماع كلمته على زعيم آخر بدعوة دينية أو سياسية ، وما من شعب عرف نفسه وحقوقه وتعارف بعض أفراده وتعاونوا على صون هذه الحقوق ، إلا وتعذر استبداد الأفراد فيهم وإن كانوا ملوكا جبارين .
مباحث لغوية بيانية فيما اختلف فيه التعبير من قصة موسى
في السور المتعددة
ومن مباحث المقابلة والتنظير بين سياق هذه السورة في القصة وسياق غيرها أنه زاد في سورة الشعراء اللام في حرف التسويف فقال:{ فلسوف تعلمون} [ الشعراء:49] ولم يذكر هذا التسويف في سورة طه .قال الإسكافي في هذه اللام إنها تدل على تقريب ما خوفهم به حتى كأنه حاضر موجود قال: "واللام للحال والجمع بينها وبين سوف التي للاستقبال إنما هو تحقيق الفعل وإدناؤه من الوقوع كما قال تعالى:{ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [ النحل:124] فجمع بين اللام وبين يوم القيامة على ما قاله تعالى:{ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [ النحل:77] وقد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصا لأحوال موسى عليه السلام في بعثه وابتداء أمره وانتهاء حاله مع عدوه فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له المحقق وقوعه – إلى اللفظ المفصح بمعناه ، ثم وقع الاقتصار في السورة التي لم يقصد بها من اقتصاص الحال ما ذكر في سورة الشعراء على نقص ما في موضع البسط والشرح وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به .
قال: "فأما في سورة طه فإنه اقتصر فيها على التصريح بما أوعدهم به وترك"فسوف تعلمون "وقال:{ فلأقطّعنّ أيديكم ...} [ طه:71] إلا أنه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها ، ويقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من ابتدائها إلى حين انتهائها ، وهو قوله بعده{ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} [ طه:71] فاللام والنون في"لتعلمن "لإدناء الفعل وتوكيده كما أتى باللام في قوله:{ فلسوف تعلمون} لإدناء الفعل وتقريبه ، فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحالين من إعلاء الحق وإزهاق الباطل ) اه .
أقول:من المعلوم أن هذه اللام لام الابتداء وأن فائدتها الأولى المتفق عليها توكيد مضمون الجملة وقد سكت الإسكافي عن التعليل بها على ظهورها وعدم خفاء شيء من شواهدها واقتصر على توجيه ما ذكروا لهذه اللام من معنى الحال إذ قالوا إن الفائدة الثانية لها تخليص معنى المضارع للحال ، نقله ابن هشام في المغني وقال إن ابن مالك اعترضه بقوله تعالى:{ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} [ النحل:124] وبقول يعقوب عليه السلام فيما حكاه الله عنه{ إني ليحزنني أن تذهبوا به} [ يوسف:13] فإن الذهاب كان مستقبلا فلو كان الحزن حالا لزم تقدم الفعل في الوجود على فاعله مع أنه أثره قال:والجواب عن الأول أن الحكم في ذلك اليوم واقع لا محالة فنزل منزلة الحاضر المشاهد – وأن التقدير في الثاني قصد أن تذهبوا به والقصد حال اه .
وأنت ترى أن تعبير الإسكافي في هذه الفائدة أوسع من التعبير الذي ذكره ابن هشام وغيره وأبعد عن الإشكال فقد قال هو إن معنى الحال فيها عبارة عن تحقيق الفعل وإدنائه من الوقوع .وهو يصدق بجعل المضارع للحال حقيقة أو بجعل معنى الاستقبال فيه قريبا جدا حتى كأنه حال ، ولا يرد على هذا ما يرد على قولهم:تخليص معنى المضارع للحال .وجوابهم عن الآيتين لا يظهر في تعبيرهم كما يظهر في تعبيره هو بغير تكلف ما .
ثم إنه لابد في صدق التعبير بقوله:{ فلسوف} من كون فرعون ذكر في وعيدهم المستقبل أنه قريب وأنه قطعي لا مردّ له ، سواء قاله على سبيل الإيضاح أو على سبيل الاستدراك .ورب جملة أو جمل طويلة تؤدى في القرآن بجملة قصيرة أو كلمة أو حرف في كلمة كاللام هنا ، وهذا من دقائق إيجاز القرآن وهو ضرب من ضروب إعجازه اللفظية في غير الأسلوب والنظم ، وكلها دون إعجازه في بيان حقائق الشرع والعلم ، فكيف يمكن لبشر أن يؤدي هذه الدقائق بالترجمة ؟ ومثله في هذا ما سبق وما يأتي من تتمة هذه المباحث .
( ومنها ) – أي مباحث المقابلة والتنظير بين السور – أنه قال هنا{ ثم لأصلّبنّكم} وقال في طه والشعراء{ ولأصلّبنّكم} [ طه:71] ولا تعارض بين العاطفين فإن العطف بالواو مطلق يصدق بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء والتراخي الذي تدل عليه ثم وليس مقيدا بإحداهما ، وغايته أنه أفاد بثم معنى خاصا وهو ما تدل عليه من التراخي في الزمن أو الرتبة وكلاهما جائز هنا فإنه بعد أن أفاد بقوله:{ فلسوف} وقوله:{ فلأقطّعنّ} [ طه:71] أن الوعيد سينفذ حالا في المجلس بقطع الأيدي والأرجل من خلاف –أفاد بقوله:{ ثم لأصلّبنّكم} أن التصليب نوع آخر ومرتبة ثانية من التنكيل بهم ، أو سيتأخر عن التقطيع في الزمن بأن يظلوا بعده مطروحين على الأرض إهانة لهم ثم يعلقون على جذوع النخل ، ويجوز الجمع بينهما ، وكون التصليب في جذوع النخل فائدة أخرى زادها في سورة طه وتخصيصها بها مناسب لنظمها ولعلك تدرك ذلك بالذوق كما تدرك به التفرقة بين بحور الشعر .
أوردنا هذا البحث الفني وأمثاله من هذه القصة على اجتنابنا للاصطلاحات الفنية والعلمية في الغالب لثلاثة أسباب:
1- إن هذه المسائل مما يقع فيه الاشتباه ولم نر لها بيانا في التفاسير المتداولة حتى التي تمتاز بالعناية بمثلها .
2- بيان ما فيها من الدقة في تحديد المعاني ، وغرائب الإيجاز ، والاتفاق في مظنة الاختلاف ، وهو المعهود في كل موضوع طويل يعبر عنه بعبارات مختلفة{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} إذ ليس في استطاعة بشر أن يحكي قصة كقصة موسى بعبارات مختلفة بمثل هذا التحديد للمعاني مع سلامتها كلها من التعارض والتناقض وغيرها من أنواع الاختلاف وإن كتب ذلك كتابة وقابل بعضه ببعض منقحا له ومصححا ، فكيف إذا كان يرتجل الكلام ارتجالا في أوقات مختلفة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كالمرتجل له ، وإنما كان يلقاه فيؤديه كما تلقاه فيعجل به خائفا أن ينسى منه شيئا حتى لقن فيه نبأ عصمته من نسيان شيء منه ، وأنه تعالى كفل حفظه{ سنقرئك فلا تنسى} [ الأعلى:6]{ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [ القيامة:16 ، 17]{ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} [ طه:114] وتلك ضروب من إعجازه اللفظي ، ولضروب إعجازه المعنوي أكبر .
3- إثبات عجز البشر عن ترجمة القرآن بلغة أخرى تؤدي معانيه كلها ، وإذا كان من المتعذر أداؤها بمثلها من لغتها ، فترجمتها بلغة أخرى أولى .
وقد تصدى بعض المغرورين في هذه الأيام لترجمته باللغة الفقيرة الملفقة من عدة لغات لأجل أن يستعين بهذه الترجمة الملاحدة من زعماء الترك على ما يبتغون من سل الشعب التركي من الإسلام بأن يحمله على الاستغناء بهذه الترجمة عن كتاب الله المنزل من عند الله تعالى:{ بلسان عربي مبين} كما ثبت في عدة آيات ، فإن انخدع هذا الشعب المسلم بهذا سهل على هؤلاء الملاحدة أن يحولوا بينه وبين السنة النبوية العربية أيضا لأنها في المرتبة الثانية ، ثم أن يحولوا بينه وبين آثار الصحابة والتابعين فإنها في المرتبة الثالثة –ثم أن يحولوا بينه وبين ما كتبه أئمة العلماء في التفسير وشرح الحديث وما استنبط منهما في أمور الدين من العقائد والآداب وأحكام العبادات والمعاملات ، وبعد هذا يتحكمون في تفسير هذه الترجمة له بما شاءوا ، ويوردون الشبهات على الإسلام المشوّه المأخوذ من ترجمتهم القابلة لذلك –وحينئذ يتم لهم ما يريدون من جعل الترك أمة لا دينية .ولكن لن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى فالشعب التركي راسخ في الإسلام ، ومتى عرف كيد هؤلاء الملاحدة المضلين فإنه ينبذهم نبذ النواة .