/م181
ثم ذكر حال المكذبين من أمة الدعوة فقال:
{ والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} الاستدراج مأخوذ من الدرج مصدر درج أو من الدرجة وهي المرقاة ، يقال درج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه ويعبر بالدرج وهو المصدر عن المدروج أي المطوي ، ويقال درج فلان بمعنى مات ، وهذه آثار قوم درجوا أي انقرضوا ، جعله الراغب مجازا بالاستعارة ، ولكن الزمخشري ذكره في حقيقة الأساس وقال واستدرجه:رقاه من درجة إلى درجة ، وقيل استدعى هلكته من درج إذا مات .وقال الراغب في سنستدرجهم من الآية:قيل معناه سنطويهم طي الكتاب عبارة عن إغفالهم نحو{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} [ الكهف:28] وقيل معناه سنأخذهم درجة بعد درجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئا فشيئا كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها اه .
أقول:والمراد على هذا أنهم يسترسلون في غيهم وضلالهم ، من حيث لا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم ، لجهلهم سنن الله تعالى في المنازعة بين الحق والباطل ، والمصارعة بين الضار والنافع ، وكون الحق يدمغ الباطل ، وما ينفع الناس يصرع ما يضرهم ، كما قال تعالى:{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [ الأنبياء:18] وقوله تعالى:{ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [ الرعد:17] .
وأما المعنى على القول الأول فهو إنذار لهم بهذه العاقبة وهو أن الله تعالى سيأخذهم بالعقاب وينصر رسوله عليهم ولكن بالتدريج وكذلك كان .
والجمع بين معنيي الاستدراج جائز هنا لظهوره فيمن نزل فيهم أولا وبالذات وهم كفار قريش الجاحدون والمبالغون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا مغترين بكثرتهم لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء فمازالوا يتدرجون في عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر فلم يعتبروا ، ثم زادهم غرورا ظهورهم في آخر معركة أحد وقال قائدهم أبو سفيان:يوم بيوم بدر- إلى أن كان الفتح الأعظم فهذا كله استدراج بمعنى التنقل في مدارج الغرور وبمعنى أخذ الله إياهم وإظهار رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى في هذا ولا ذاك .
وقد فسر السدي الاستدراج بالمعنى الثاني فجعله خاصا بأخذهم في غزوة بدر وفسر بعض المتقدمين الاستدراج بمعناه العام في اللغة كاغترار العصاة بالنعم التي تنسيهم التوبة وتلهيهم عن شكر المنعم .واقتصارهم عليه غفلة عن سبب النزول ومن أنزل فيهم .فهو كقوله تعالى في سورة القلم:{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [ القلم:44] وقفى عليها بمثل ما هنا- والسورتان مكيتان- وهو قوله تعالى:{ وأملي لهم إن كيدي متين} .
/خ186