/م181
{ وأملي لهم إن كيدي متين} الإملاء الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير مشتق من الملوة والملاوة وهي الطائفة الطويلة من الزمن ، والملوان الليل والنهار قال الراغب:وحقيقته تكررهما وامتدادهما ، يقال أملى له إذا أمهله طويلا .وأملى للبعير إذا أرخى له الزمام ووسع له في القيد ليتسع له المرعى .{ واهجرني مليا} [ مريم:46] أي زمنا طويلا .والملا بالقصر المفازة الواسعة الممتدة ، وأما الإملاء للكاتب بمعنى تلقينه ما يكتب فأصله أملل .فهو ليس من هذه المادة .
والكيد كالمكر هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسوءه من مخبره وغايته ، وأكثره احتيال مذموم ، ومنه المحمود الذي يقصد له المصلحة ككيد يوسف لأخذ أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم ، ولذلك أسند وأضيف إلى الله عز وجل في مثل هذين الموضعين .والجمهور على أن إضافة الكيد والمكر أو إسنادهما إليه تعالى في القرآن من باب المشاكلة أو متأول بمعنى العقاب والجزاء وما بيناه أدق ، والمتين القوي الشديد .
ومعنى الآية وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر وأمد لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحرب بمقتضى سنتي في نظام الاجتماع للبشر كيدا لهم ومكرا بهم ، لا حبا فيهم ونصرا لهم ،{ فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [ المؤمنون:54- 56] وإن تسأل عن كيدي فهو قوي متين:قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى ( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ){[1329]} فمعنى هذا الإملاء أن سنة الله تعالى في الأمم والأفراد قد مضت بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق ، فالمخذول إذا بغى وظلم ولم ينزل به العقاب الإلهي عقب ظلمه يزداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل في ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ذلك بأخذ الحكام له أو بتورطه في مهلكة أخرى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
وقد نقلنا في أوائل هذا التفسير عن شيخنا الأستاذ الإمام أن عذاب الأمم في الدنيا مطرد ، وأما عذاب الأفراد فقد يتخلف ويرجأ إلى الآخرة .وحققنا في مواضع أخرى أن عقاب الأمم وبعض عقاب الأفراد أثر طبيعي لذنوبهم فالأمم والشعوب الباغية الظالمة لابد أن يزول سلطانها وتدول دولتها ، والسكير والزناء لا يسلمان من الأمراض التي سببها السكر والزنا .والمقامر قلما يموت إلا فقيرا معدما الخ .
وقد سردنا الشواهد في مواضع أخرى على عقاب الأمم من الآيات التي صدقتها شواهد التاريخ الماضي والحاضر وستصدقها في المستقبل ، وما كانت الحرب الأخيرة العظمى إلا بعض عقاب الله تعالى للذين صلوا نارها ببغيهم وفسوقهم ، وسيرون ما هو شر منها إذا لم يرجعوا عن غيهم .
/خ186