/م182
والآية الثّانية تؤكّد الموضوع ذاته ،وتشير بأنّ الله لا يتعجل بالعذاب عليهم ،بل يمهلهم لعلهم يحذرون ويتعظون ،فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب الله ؛فتقول الآية ( واُملي لهم ) .
لأنّ الاستعجال يتذرع به من يخاف الفوت ،والله قوي ولا يفلت من قبضته أحد ( إنّ كيدي متين ) .
و «المتين » معناه القوي المحكم الشديد ،وأصله مأخوذ من المتن ،وهو العضلة المحكمة التي تقع في جانب الكتف ( في الظهر ) .
و«الكيد » والمكر متساويان في المعنى ،وكما ذكرنا في ذيل الآية ( 54 ) من سورة آل عمران ،أنّ المكر يعني في أصل اللغة الاحتيال ومنع الآخر من الوصول إلى قصده .
ويستفاد من الآيةآنفة الذكر وآيات أُخرى وبعض الأحاديث الشريفة الواردةفي شأن الاستدراج ،أو العذاب الاستدراجي ،أنّ الله لا يتعجل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقاً لسنته في عباده ،بل يفتح عليهم أبواب النعم .فكلّما ازدادوا طغياناً زادهم نعماً .
وهذا الأمر لا يخلو من إحدى حالتين ،فإمّا أن تكون هذه النعم مدعاة للتنبيه
والإيقاظ فتكون الهداية الإِلهية في هذه الحال عملية .
أو أنّ هذه النعم تزيدهم غروراً وجهلا ،فعندئذ يكون عقاب الله لهم في آخر مرحلة أوجع ،لأنّهم حين يغرقون في نعم الله وملذاتهم ويبطرون ،فإنّ الله سبحانه يسلب عندئذ هذه النعم منهم ،ويطوي سجل حياتهم ،فيكون هذا العقاب صارماً وشديداً جدّاً ...
وهذا المعنى بجميع خصوصياته لا يحمله لفظ الاستدراج وحده ،بل يستفاد هذا المعنى يفيدِ ( من حيث لا يعلمون ) أيضاً .
وعلى كل حال ،فهذه الآية تنذر جميع المجرمين والمذنبين بأنّ تأخير الجزاء من قبل الله لا يعني صحة أعمالهم أو طهارتهم ،ولا عجزاً وضعفاً من الله ،وأن لا يحسبوا أنّ النعم التي غرقوا فيها هي دليل على قربهم من الله ،فما أقرب من أن تكون هذه النعم والانتصارات مقدمة لعقاب الاستدراج .فالله سبحانه يغشيّهم بالنعم ويمهلهم ويرفعهم عالياً ،إلاّ أنّه يكبسهم على الأرض فجأة حتى لا يبقى منهم أثر ،ويطوي بذلك وجودهم وتأريخ حياتهم كله .
يقول الإمام علي( عليه السلام ) في نهج البلاغة أنّه «من وسّع عليه في ذات يده فلم يَرَ ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً »{[1495]} .
كما جاء عنه( عليه السلام ) في روضة الكافي أنّه قال: «ثمّ إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق ،ولا أظهر من الباطل ،ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله( صلى الله عليه وآله وسلم )إلى أن قاليدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالساً حتى يخرج من الدين ،ينتقل من دين ملك إلى دين ملك ،ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك ،ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك ،ومن عهود ملك إلى عهود ملك ،فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون »{[1496]} .
ويقول الإمام الصادق( عليه السلام ): «كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه ،وكم من مستدرج يستر الله عليه ،وكم من مفتون بثناء الناس عليه »{[1497]} .
وجاء عنه( عليه السلام ) في تفسير الآية المشار إليها آنفاً أنّه قال: «هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه ،تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب »{[1498]} .
وورد عنه( عليه السلام ) في كتاب الكافي أيضاً: «إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار ،وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ،ويتمادى بها ،وهو قوله عزّ وجل: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )بالنعم عند المعاصي »{[1499]} .