/م181
ثم قال تعالى:{ من يضلل الله فلا هادي له} هذا استئناف بياني مقرر لجملة هذا السياق ، ومعنى الجملة المراد أن الله تعالى قد جعل هذا القرآن أعظم أسباب الهداية وإنما جعله هدى للمتقين ، لا للجاحدين المعاندين ، وجعل الرسول المبلغ له أكمل الرسل وأقواهم برهانا في حاله وعقله وأخلاقه وكونه أميا- فمن فقد الاستعداد للإيمان والهدى بهذا الكتاب على ظهور آياته وقوة بيناته ، وبهذا الرسول المتحدي به- فهو الذي أضله الله ، أي قضت سنته في نظام خلق الإنسان ، وارتباط المسببات في أعماله بالأسباب ، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال ، وإذا كان ضلاله بمقتضى سنن الله ، فمن يهديه من بعد الله ؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير سننه ولا تبديلها .
{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون} أي وهو تعالى يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم كالشيء اللقا الذي لا يبالى به حالة كونهم يعمهون فيه أي يترددون تردد الحيرة والغمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، وفي هذا بيان لسبب ضلالهم من كسبهم ، وهو الطغيان أي تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والظلم والفجور الذي ينتهي بالعمه وهو التردد في الحيرة ، والارتكاس في الغمة .وقد روعي في إفراد الضمير أولا لفظ"من يضلل "وفي جمعه آخرا معناها وهو الجمع ، ونظائره كثيرة .
وقد علم مما قررناه أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجبارا ، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان اضطرارا لا اختيارا ، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان ، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان .
وقرأ حمزة والكسائي يذرهم بإسكان الراء فقيل هو للتخفيف وقيل للإعراب بالعطف على جواب الشرط وقرأه بعض القراء بالنون على الالتفات .
/خ186