{ ليميز الله الخبيث من الطيب} يعني أن الله تعالى كتب النصر والغلب والفوز لعباده المؤمنين المتقين ، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكافرين للصدّ عن سبيل الله الذي استقاموا عليه ، وجعل هذا جزاء كل من الفريقين ما داما على حالهما ، فإذا غيرا ما بأنفسهما غيّر الله ما بهما .جعل هذا جزاءهما في الدنيا وجعل جهنم مأوى للكفار وحدهم في الآخرة ، لأجل أن يميز الكفر من الإيمان ، والحق والعدل من الجور والطغيان ، فلن يجتمع في حكمه سبحانه الضدان ، ولا يستوي في جزائه النقيضان{ قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب} [ المائدة:100] فالخبيث والطيب في حكم العقلاء والفضلاء ، كالخبيث والطيب الحسيين في حكم سليمي الحواس ولاسيما الشمّ .وقد سبق لنا تحقيق هذا المعنى في تفسير هذه الآية من سورة المائدة وفي تفسير{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} [ آل عمران:179] .
قرأ حمزة والكسائي ( يميز ) بالتشديد من التمييز وقرأها الجمهور بالتخفيف .والمراد بالميز والتمييز ما كان بالفعل والجزاء كما قلنا لا بالعلم فهو بكل شيء عليم ، وهذا التمييز الإلهي بين الأمرين في الاجتماع البشري يوافق ما يسمى في عرف هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي وبقاء أمثل الأمرين المتقابلين وأصلحهما .وسنن الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى وإن جهل ذلك الخبيثون المتكلون على الشفاعات والمغترون بالألقاب الدينية .من كل ملة وأمة .فالخبيث في الدنيا خبيث في الآخرة لا ينفعه شيء ، ولذلك قال:
{ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا} أي ويجعل سبحانه الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات ، وانضمام المتناسبات ، وائتلاف المتعارفات ، واختلاف المتناكرات ، يقال ركمه إذا جمع بعضه إلى بعض ومنه{ سحاب مركوم} [ الطور:44]{ فيجعله في جهنم} يجعل أصحابه فيها يوم القيامة{ أولئك هم الخاسرون} التامو الخسران وحدهم ، لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم .
جاء مصر القاهرة من عهد قريب صاحب صحيفة سورية دورية من دعاة الإلحاد المتفرنجين ، فأقام فيها أياما قلائل استحكمت فيها له مودة أشهر ملاحدة مصر ودعاة الزندقة والإباحة فيها ، فعاد ينوّه بهم ، وينشر دعايتهم ، ويزعم أنهم دعامة الترقي والعمران ، بالدعاية إلى تجديد ثقافة لمصر تخلف ما كان لها من ثقافة العرب والإسلام ، والحق أن هؤلاء كلهم هدامون للعقائد والفضائل وجميع مقومات الأمة ومشخصاتها ، وليسوا بأهل لبناء شيء لها ، إلا إذا سميت الزندقة وإباحة الأعراض وتمهيد السبيل لاستعباد الأجانب لأمتهم بناء مجد لها .وقد ذكرني ذلك رجلا من قرية صالحة مر به رجل من معارفه كان في إحدى المدن فطفق يسأله عن المساجد ومدارس العلم فيها وعن الصالحين من أهلها .فأجابه الرجل:أعن هذا تسأل مثلي ؟ سلني عن أهل الحانات والمواخير ، فإنني بها وبهم عليم خبير{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} [ الأنعام:129] .