{ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 ) يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( 65 ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ( 66 )}
لما أمر الله تعالى رسوله في الآية 61 أن يجنح للسلم إذا جنح لها الأعداء وكان جنوح الأعداء لها مظنة الخداع والمكر كما تقدم قريبا في تفسيرها ، وعده عز وجل في الآية 62 بأن يكفيه أمرهم إذا هم أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب ، أو غيرها من الإيذاء والشر ، وامتن عليه بما يدل على كفايته إياه وهو تأييده له بنصره وبالمؤمنين إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه .ثم إنه تعالى وعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم عليه في حال الحرب كحال السلم وفي كل حال ، وجعل هذا الوعد تمهيدا لما بعده من أمره بتحريضهم على القتال ، عند الحاجة إليه من بدء العدو بالحرب ، أو خيانتهم في الصلح ، أو نقضهم للعهد ، أو غير ذلك فقال:{ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 )
أي إن الله تعالى هو كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيره ، وكاف لمن أيدك بهم من المؤمنينفالحسب في تلك الآية كفاية خاصة به صلى الله عليه وسلم في حال خاصة ، وفي هذه كفاية عامة له ولمن اتبعه من المؤمنين في كل حال من قتال أو صلح يفي به العدو أو يخون ، وفي غير ذلك من الشؤون .ويحتمل لأن يكون العطف على معنى:وحسبك من اتبعك من المؤمنين أي فإنه ينصرك بهم .ولكن مقتضى كمال التوحيد هو الأول وهو كفاية الله تعالى له ولهم كما قال تعالى في المؤمنين في سياق غزوة أحد أو غزوة حمراء الأسد{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فالحسبلة مقتضى التوكل وإنما يكون التوكل على الله وحده كما قال لنبيه{ قل حسبي الله عليه فليتوكل المتوكلون} [ الزمر:38] أي عليه وحده بدلالة تقديم الظرف ومثله في هذا الحصر آيات كثيرة .وقال في المنافقين{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} [ التوبة:59] أي لكان خيرا لهم ، وعلمهم الله تعالى أن يسندوا الإعطاء من الصدقات إلى الله لأنه المعطي الذي فرض الصدقات وأوجبها ، وإلى رسوله لأنه هو الذي يقسمها وأن يسندوا كفاية الإحساب إلى الله وحده وتكون رغبتهم إلى الله وحده ، ولم يأمرهم أن يقولوا:حسبنا الله ورسوله ، إذ لا يكفي العباد إلا ربهم وخالقهم كما قال تعالى:{ أليس الله بكاف عبده} [ الزمر:36] ولا سيما الكفاية الكاملة التي يعبر عنها بحسبك أي التي يقول فيها المكفي حسبي حسبي ، وهي المرادة هنا كما تقدم .وإذا كان من دأب آحاد المؤمنين وهجيراهم « حسبنا الله ونعم الوكيل » فأنبياء الله ورسله أولى بهذا لأنهم أكمل توحيدا وتوكلا من غيرهم .وناهيك بخاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم ثم ناهيك بوعد الله تعالى إياه بهذه الكفاية ، وهذا المعنى هو الذي اقتصر عليه ابن كثير راويا عن الشعبي أنه قال في الآية:حسبك الله وحسب من شهد معك ( قال ) وروي عن عطاء الخراساني مثله وعبد الرحمان بن زيد اه .
أقول:وهذا المعنى قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وأبطل مقابله .فاحتمال عطف من اتبعه من المؤمنين على اسم الجلالة باطل من حيث المعنى كما قال ، وإن عده النحاة أظهر في الإعراب على قواعد البصريين التي يتعصب لها جمهورهم ، وما من طائفة من علماء علم ولا فن لهم مذهب يخالفه آخرون إلا ويوجد فيهم من يتعصب لكل ما يقوله أهل مذهبهم ولأئمة فنهم .وقد قال الفراء والزجاج ههنا إن قوله تعالى:{ ومن اتبعك من المؤمنين} في موضع النصب على المفعول معه أي الواو بمعنى «مع » كقول الشاعر:
إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا *** فحسبك والضحاك سيف مهنّدُ{[1452]}
قال الفراء وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيكولهذا فضل الفراء الوجه الآخر وهو أن المعنى يكفيك الله ويكفيك من اتبعك من المؤمنين ، إيثارا منه للراجح في عرف النحاة البصريين ، على الراجح في أصول الدين ، وكذلك أبو حيان النحوي فإنه تعقب إعراب الوجه الأول بأنه مخالف لقول سيبويه فإنه جعل زيدا في قولهم:«حسبك وزيدا درهم » منصوبا بفعل مقدر أي كفى زيدا درهم .ولاغرو فأبو حيان هذا كان معجبا بشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية وشديد الإطراء له وقد مدحه في حضرته بأبيات شبهه فيها بالصحابة جملة رضي الله عنهم وبأبي بكر رضي الله عنه خاصة وشهد له بتجديد الدين حتى قال فيها:
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ *** هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
ثم إنه ذاكره في شيء من العربية واحتج عليه بقول سيبويه فقال له شيخ الإسلام ما كان سيبوبه نبي النحو ولا معصوما بل أخطأ في الكتاب ( أي كتابه المشهور في النحو ) في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت .ويروى أنه قال له:يفشر سيبويه .فقاطعه أبو حيان وذكره في تفسيره بكل سوء كما ذكره الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة .ولولا تعصب هؤلاء لأئمة فنهم لما جعلوا فهم سيبويه حجة في مثل هذه المسألة على ما تقتضيه أصول التوحيد من معنى عبارة القرآن .ولولا إرادة التذكير بهذه الجناية التي يرتكبها العلماء بعصبيتهم المذهبية لزعمائهم لما أطلت في هذه المسألة .
هذا وإن المراد بالمؤمنين هنا جماعتهم من المهاجرين والأنصار كما تقدم في الآيتين السابقتين لهذه الآية ولا سيما الذين شهدوا بدرا منهم في الأنصار وحدهم كما قيل هنا وهناك فإن جل هذه السورة نزل في شأن تلك الغزوة الكبرى كما تقدم أيضا ، وعن الكلبي أن هذه الآية نزلت قبلها .وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت عند ما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصار المسلمون بإسلامه أربعين نسمة منهم ست نسوة .رواه البزار من طريق عكرمة بسند ضعيف وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه بسند صححه السيوطي وفيه نظر ورواه عنه الطبراني أيضا وأخرج أبو الشيخ مثله عن سعيد بن المسيب .ومقتضى هذا أن الآية مكية والسورة مدنية بالإجماع ، ولا يظهر معناها الذي قررناه إلا في وقت نزول سورتها ، ولا المعنى الآخر المرجوح الذي أراده واضع الرواية فيما يظهر فإن أولئك الأربعين لم تتحقق بهم كفاية الإحساب بالنصر على الكفار ولا بأمن شرهم واضطهادهم للمؤمنين بل اضطرهم المشركون إلى الهجرة العامة بعد هجرة الحبشة الخاصة .