/م30
ثم وصفهم الله تعالى بوصف ثالث في تفصيل حال كفرهم المجمل المتقدم بعد وصفهم باتخاذ ابن الله ورؤسائهم أرباباً من دون الله ، وهو:{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهداية دينه الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله ، ثم أتمه وأكمله ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل ، كما فعلوا من قبل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح ، التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح ، وبما ابتدعه الرؤساء لهم من التشريع ، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا ، والعبد المربوب رباً ، والعابد المألوه إلهاً ، على تفاوت بين فرقهم في ذلك ، كما تقدم شرحه في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآية .
والإرادة في الأصل القصد إلى الشيء ، وقد تطلق على ما يفضي إليه وإن لم يتصوره فاعله .يقال في الرجل المسرف المبذر:يريد أن يخرب بيته .أو:أن يترك أولاده فقراء ، أي أن تبذيره يفضي إلى ذلك فكأنه يقصده ؛ لأن فعله فعل من يقصد ذلك .وأهل الكتاب الذين عادوا الإسلام منذ البعثة المحمدية كانوا يقصدون إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال من جهة ، وبإفساد العقائد والطعن من جهة أخرى كما يأتي قريباً ، وكل من الأمرين يصح التعبير عنه بإرادة إطفاء النور لأنه تمثيل لحالهم معه .وأما ما كان من إفسادهم في دينهم فمنه ما كان بقصد من المنافقين والمبتدعين فيه ، ولا سيما الروم الذين اتخذوا النصرانية عصبية سياسية منذ عهد قسطنطين ، ومنه ما كان بغير قصد إلى إطفاء نوره ، بل كان بعضه بقصد خدمته ، ( كما فعل بعض مبتدعة المسلمين الذين اتبعوا سننهم من حيث لا يشعرون بوضع الأحاديث ، والعبادات المبتدعة ، ونشر الخرافات ) وهو ما بيناه مراراً في مواضع آخرها وأقربها ما قلناه آنفا في هذا السياق .
قال السدي:المراد بالنور هنا الإسلام ، وقال الضحاك:هو محمد صلى الله عليه وسلم .وقال الكلبي:هو القرآن .وقال بعض المفسرين:المراد بالنور الدلائل على التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها يهتدى بها إلى الحق في العقليات ، كما يهتدى بالنور في رؤية الحسيات ؟ وأقول:إن المعنى الجامع بين النور الحسي والنور المعنوي هو أنه الشيء الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، ولك أن تقول:إن النور المعنوي للبصيرة كالنور الحسي للبصر .وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى:{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [ المائدة:1617] إن في هذا النور الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفا ، وبينا وجه كل منها ، واخترنا الثالث منها ، وهو القرآن ، لموافقته لقوله تعالى:{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [ النساء:172] ، وقوله تعالى في رسوله الأعظم:{ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [ الأعراف:151] ، وقوله:{ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} [ التغابن:8] ، وأما التوراة والإنجيل فقد قال الله تعالى في كل منهما إن فيه نورا هدى ( 5:47 و49 ) ، ولم يجعله عين النور كالقرآن .ونختار هنا القول الأول وهو دين الإسلام بالمعنى العام الشامل لكل ما جاء به رسل الله ، ولا سيما دين التوراة والإنجيل والقرآن .وقد كان كل منها نورا لأهله في الزمن الذي نزل به بقدر حاجتهم ، حتى إذا نزل القرآن كان هو النور الأعظم الكافي لهداية جميع البشر إلى آخر الزمان ، ولله در البوصيري حيث قال في لاميته بعد ذكر تلك الكتب:
الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا
نعم إن القوم قد أطفأوا جل ذلك النور ، فزجوا بأنفسهم في ظلمات لا يلوح لهم فيها إلا وميض ضئيل منه ، وهم يريدون إطفاء الآخر الأخير أيضا .والنور الحسي قد يطفأ بنفخ الفم كسرج الزيت القديمة وإطفاؤه إزالته ، وإطفاء النار إزالة لهبها واتقاد جمرها معاً ، فهو أبلغ من إخمادها ؛ لأن الإخماد إزالة اللهب فقط .وإذا كان إطفاء السراج سهلا فإطفاء نور الشمس غير ممكن .
وإنما اخترت هنا أن المراد بالنور دين الله الذي بعث به رسله في كل قوم بما يناسب حالهم في زمنهم ؛ لأنه هو الذي يقبل التمام المراد بقوله تعالى:{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره} الذي أضافه إلى اسمه ببعثة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين ، مبيناً لهم كل ما يحتاجونه من أمر الدين ، من عقائد يؤيدها البرهان ، ويطمئن لها الوجدان ، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان ، فضلاً عن الأصنام والأوثان .وعبادات تتزكى بها النفس ، وتطهر من كل رجس ، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ، تكفلها العقائد الوجدانية ، ويبطل ثوابها المن والأذى ، وآداب تطبع في الأنفس ملكات الفضائل ، وتتوثق بها عرى المصالح ، وتشريع سياسي وقضائي يجمع بين العدل والرحمة ، ويجعل السلطان الحكمي للأمة ، ويقرر المساواة بين جميع الناس في الحق ، مع تعظيم شأن العلم والعقل ، واحترام حرية الإرادة والرأي والوجدان ، ومنع الإكراه على الأديان ، والتوحيد المصلح للاجتماع البشري في العقائد والتعبد والتشريع واللغة ، لإزالة التعادي بين الشعوب والقبائل ، فمن لم يقبلها كلها كان تشريع المساواة بالعدل كافياً لحفظ حقوقه فيها .
أتم الله تعالى ذلك كله على لسان خاتم النبيين ، الذي حفظها إلى آخر الزمان ، ولم يكفل ذلك لكتاب آخر ؛ لأن سائر الكتب كانت أدياناً خاصة موقتة ، وأنزل عليه بعد أن أتم الدعوة ، وأقام الحجة ، وأوضح المحجة{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [ المائدة:9] .
وجملة المعنى في هذا التركيب أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده ، وإنما قطبه الذي تدور عليه جميع عباداته توحيد الربوبية والألوهية ، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية ، والله تعالى لا يريد ذلك ، لا يريد في هذا الشأن إلا أن يتم هذا النور الذي بدا في الأجيال السابقة كالسراج على منارته ، أو كنور الهلال في بزوغه ، فالقمر في منازله ، فيجعله بدرا كاملاً ، بل شمساً ضاحية ، يعم نوره الأرض كلها ، وما يريده الله كائن لا مرد له .
{ ولو كره الكافرون} ذلك بعد إتمامه ، كما كانوا يكرهونه من قبل عند بدء ظهوره ، وجواب لو محذوف للعلم به مما قبله كما يقول النحاة .فهم يكيدون له ، ويفترون عليه ويطعنون فيه ، وفيمن جاء به .ويحاولون إخفاءه ، أو «خنق دعوته ، وحصد نبتته » ، كما قال شيخنا رحمه الله .فأما اليهود فكان من أمرهم في مقاومة دعوته ، ومساعدة المشركين عابدي الأصنام في قتال أهله ، ومن خذلان الله تعالى إياهم ، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم ، ما بيناه في تفسير سورة الأنفال ، فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله كمشركي العرب سواء ، ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه ، وتفريق كلمة أهله بما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعلي كرم الله وجهه ، والغلو فيه ، وإلقاء الشقاق بين المسلمين في مسألة الخلافة ، وكان لشيعته من الدسائس في قتل عثمان رضي الله عنه ، ثم في الفتنة بين علي ومعاوية أقبح التأثير ، ولولاهم لما قتل أولئك الألوف الكثيرون من صناديد المسلمين ، فإن السعي إلى الصلح والاتفاق نجح غير مرة فأفسدوه بدسائسهم ، ثم كان لليهود الذين أظهروا الإسلام والقيام بفرائضه نفاقاً مكيدة أخرى لا تزال مفاسدها مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ وهي الإسرائيليات التي بينا بعضها في مواضع من هذا التفسير ، ولا نزال نبين ما يعرض لنا فيه وفي المنار .
وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم ، وأكرم ملكهم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم ، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم ، بل أسلم هو على أيديهم ، كما تقدم بيانه في تفسير{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [ المائدة:82] ، ثم انقلب الأمر وانعكست القضية بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب ، فكان اليهود يتوددون للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستبدادهم ، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم ، دون نصارى هذه البلاد ولا سيما سورية ومصر الأصليين ، فإنهم رأوا من عدل المسلمين وفضائلهم ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم ، حتى آل الأمر إلى ما بيناه في تفسير الآية السابقة من الحروب الصليبية ، وغلو نصارى أوروبا في عداوة المسلمين ، وما بيناه قبلها في تفسير قتال أهل الكتاب من حال مسلمي هذا العصر مع دول أوروبا المستولية على أكثر بلادهم ، المهددة لهم فيما بقي لهم من مهد دينهم ومشاعره وحرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد بين الله هذا المعنى في سورة الصف بمثل هذه الآية ، إلا أنه قال هنالك:{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره} [ الصف:8] وباقي الآية ونص الآية بعدها كآيتي براءة سواء .فأما قوله{ ليطفئوا} فمن علماء العربية من يقول:إنه بمعنى"أن يطفئوا "لأن اللام فيه مصدرية أو بمعنى المصدرية ، ومنهم من يقول:إنها للتعليل ، والمعلل محذوف للعلم به من القرينة وهو التحقيق ، وبيانه أنه قبل هذه الآية ذكر بشارة عيسى عليه السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتكذيب اليهود له في رسالته وبشارته ، وقال بعدها:{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} [ الصف:7] ، فالمعنى على التعليل أن هؤلاء الضالين الظالمين لأنفسهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرهم به عيسى عليه السلام - سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم- بعد بعثته ودعوته إياهم إلى الإسلام وظهور نوره بالحجج الساطعة الدالة على صدقه يريدون افتراء الكذب بإنكار تلك البشارات ، وتأويلها بما يصرفها عن وجهها ؛ لأجل أن يطفئوا نور الله تعالى ، بافترائهم الذي يخرج من أفواههم ظناً منهم أن الافتراء بإنكارها وتأويلها وبالطعن في محمد صلى الله عليه وسلم يطفئ هذا النور ، ثم قال{ والله متم نوره} أي والحال أن الله تعالى متم نوره بالفعل فلا يطفئه الافتراء ، بل هو كمن ينفخ في نور قوي ليطفئه فيزيده بذلك اشتعالاً ، أو كمن يحاول إطفاء نور الشمس فلا ينال منها منالاً .فالفرق بين الآيتين أن آية سورة الصف تعليل لافترائهم بإرادتهم إطفاء النور به ، وآية براءة لما جاءت بعد بيان شركهم بمضاهأتهم لأقوال الوثنيين من قبلهم جعل ذلك نفسه بمعنى إرادة إطفاء النور بلا واسطة .
ثم إن بينهما فرقا آخر وهو التعبير في آية سورة الصف بقوله:{ والله متم نوره} وفي سورة براءة بقوله:{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره} ، والأول يفيد أنه متمه بالفعل في الحال ، والثاني وعد بأن يتمه في الاستقبال ، فيجتمع منهما إثبات هذا الإتمام في الحال والاستقبال ، فهو النور التام الكامل الذي لا ينطفئ بالقيل والقال ، بل يبقى مشرقاً إلى أن يأذن الله لهذا العالم بالزوال ، ولما كان هذا الوعد الذي يتعلق بالمستقبل المغيب عن علم الخلق من شأنه أن يرتاب فيه الناس ، أكده الله تعالى بما لم يؤكد به الخبر الأول ؛ لأن صدقه مشاهد لا يحتاج إلى التأكيد ، وناهيك بقوله:{ ويأبى الله إلا أن يتم نوره} أي أنه لا يرضى ولا تتعلق إرادته بشيء في هذا الشأن إلا شيئا واحدا وهو أن يتم نوره فلا يجعل في قدرة أحد أن يطفئه .
والآية تشعر بأن هؤلاء الكافرين الكارهين له سيحاولون في المستقبل إطفاء هذا النور ، كما حاولوا ذلك في عصر من أتمه وأكمله بوحيه إليه وبيانه له .وهذا ما وقع من قبل ، وأشرنا إليه في هذا السياق ، وأفظعه الحروب الصليبية ومقدماتها .وما هو واقع الآن ، فإن دعاة النصرانية ( المبشرون ) من الإفرنج يغلون في الطعن على الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم في كل بلد لدولهم فيه حكم أو نفوذ أو امتياز ، كمصر والهند وغيرهما ، ولولا شدة غلوهم ووقاحتهم في الافتراء والبهتان لما أطلنا في هذا السياق بما أطلنا به من بيان حالهم في دينهم وكتبهم .وهذا ما يتوقع في الأزمنة الآتية ، وقد صدق الله وعده{ ومن أصدق من الله حديثا} [ النساء:87] .