وقوله:( فاختلف الأحزاب من بينهم ) أي:اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصممت طائفة - وهم جمهور اليهود ، عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنية ، وقالوا:كلامه هذا سحر . وقالت طائفة أخرى:إنما تكلم الله . وقال آخرون:هو ابن الله ، وقال آخرون:ثالث ثلاثة . وقال آخرون:بل هو عبد الله ورسوله . وهذا هو قول الحق ، الذي أرشد الله إليه المؤمنين . وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون ، وابن جريج ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله:( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) ، قال:اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال أحدهم:هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء - وهم اليعقوبية . فقال الثلاثة:كذبت . ثم قال اثنان منهم للثالث:قل أنت فيه ، قال:هو ابن الله - وهم النسطورية . فقال الاثنان:كذبت . ثم قال أحد الاثنين للآخر:قل فيه . قال:هو ثالث ثلاثة:الله إله ، وهو إله ، وأمه إله - وهم الإسرائيلية ملوك النصارى ، عليهم لعائن الله . قال الرابع:كذبت ، بل هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ، وهم المسلمون . فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا ، فاقتتلوا فظهر على المسلمين ، وذلك قول الله تعالى:( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [ آل عمران:21] وقال قتادة:وهم الذين قال الله:( فاختلف الأحزاب من بينهم ) قال:اختلفوا فيه فصاروا أحزابا
وقد روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، وعن عروة بن الزبير ، وعن بعض أهل العلم ، قريبا من ذلك . وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم:أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، اختلافا متباينا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا وسبعون تقول فيه قولا آخر ، وخمسون تقول فيه شيئا آخر ، ومائة وستون تقول شيئا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم ، اتفقوا على قول وصمموا عليه ومال إليهم الملك ، وكان فيلسوفا ، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة ، بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين ، وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعا كثيرة ، وحرفوا دين المسيح ، وغيروه ، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها:بلاد الشام ، والجزيرة ، والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا ، بل رفعه الله إلى السماء .
وقوله:( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى ، وزعم أن له ولدا . ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم; فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين:"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) [ هود:102] وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم ". وقد قال الله تعالى:( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) [ الحج:48] وقال تعالى:( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم:42] ولهذا قال هاهنا:( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) أي:يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "