القول في تأويل قوله تعالى:أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قال أبو جعفر:اختلفت القراء في قراءة قوله:( ألا أنهم يثنون صدورهم ) ، فقرأته عامة الأمصار:( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على تقدير "يفعلون "من "ثنيت "، و "الصدور "منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم:ذلك كان من فعل بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه وثَنَى ظهره.
*ذكر من قال ذلك:
17938- حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال:كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه ، وثنى ظهره. (26)
17939- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه)، قال:من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال:كان المنافقون إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره ، ويطأطئ رأسه. فقال الله:(ألا إنهم يثنون صدورهم)، الآية.
17940- حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن حصين قال:سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله:(يثنون صدورهم) ، قال:كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثَنَى صدره، وتغشَّى بثوبه ، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون:بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
17941- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(يثنون صدورهم) قال:شكًّا وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
17942- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(يثنون صدورهم) ، شكًّا وامتراءً في الحق.(ليستخفوا منه) ، قال:من الله إن استطاعوا.
17943- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد:(يثنون صدورهم) ، قال:تضيق شكًّا .
17944- حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(يثنون صدورهم) ، قال:تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال:(ليستخفوا منه) ، قال:من الله إن استطاعوا
17945- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
17946- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم)، قال:من جهالتهم به، قال الله:(ألا حين يستغشون ثيابهم) ، في ظلمة الليل ، في أجواف بيوتهم ، (يعلم) ، تلك الساعة (ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ).
17947- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم)، قال:كان أحدهم يحني ظهره ، ويستغشي بثوبه.
* * *
وقال آخرون:إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله . (27)
*ذكر من قال ذلك:
17948- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة:( ألا إنهم يثنون صدورهم) الآية، قال:كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى:(ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم ، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه ، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه. (28)
17949- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:(يستغشون ثيابهم) ، قال:أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
* * *
وقال آخرون:إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ، ويبدون له المحبة والمودة، أنهم معه وعلى دينه. (29) يقول جل ثناؤه:ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم.
* * *
وقال آخرون:كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
17950- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال:هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ:(ألا حين يستغشون ثيابهم) الآية.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك:(أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ )، على مثال:"تَحْلَولِي الثمرة "، "تَفْعَوْعِل ".
17951- حدثنا . . . قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال:سمعت ابن عباس يقرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ )، قال:كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم ، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. (30)
17952- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس يقرؤها:(أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ )، قال:سألته عنها فقال:كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء.
* * *
وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
17953- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، أخبرت ، عن عكرمة:أن ابن عباس قرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ )، وقال ابن عباس:"تثنوني صدورهم "، الشكُّ في الله ، وعمل السيئات، (يستغشون ثيابهم) ، يستكبر، أو يستكنّ من الله ، والله يراه، يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
17954- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ:(أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ )، قال عكرمة:"تثنوني صدورهم "، قال:الشك في الله ، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه ، ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون
* * *
قال أبو جعفر:والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وهو:( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على مثال "يفعلون "، و "الصدور "نصب ، بمعنى:يحنون صدورهم ويكنُّونها، (31) كما:-
17955- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:(يثنون صدورهم) ، يقول:يكنُّون. (32)
17956- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم) ، يقول:يكتمون ما في قلوبهم، (ألا حين يستغشون ثيابهم)، يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
17957- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:(ألا إنهم يثنون صدورهم) ، يقول:(تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ).
قال أبو جعفر:وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا ، هكذا ذكر القراءة في الرواية.
* * *
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال:إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم ، أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله:(ليستخفوا منه) ، بمعنى:ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، (منه) ، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك ، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله ، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا ، تغشَّوا بالثياب ، أو أظهروا بالبَرَاز، (33)
فقال:(ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعني:يتغشَّون ثيابهم ، يتغطونها ويلبسون.
* * *
يقال منه:"استغشى ثوبه وتغشّاه "، قال الله:وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ[سورة نوح:7]، وقالت الخنساء:
أَرْعَـى النُّجُـومَ وَمَـا كُـلِّفْتُ رِعْيَتَهَا
وَتَــارَةً أَتَغَشَّــى فَضْـلَ أَطْمَـارِي (34)
* * *
، (يعلم ما يسرون) ، يقول جل ثناؤه:يعلم ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها ، وثنوها، وما تناجوه بينهم فأخفوه (35)، (وما يعلنون) ، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم، (إنه عليم بذات الصدور) ، يقول تعالى ذكره:إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه ، من إيمان وكفر ، وحق وباطل ، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ، (36) كما:-
17958- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:(ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يقول:يغطون رءوسهم.
* * *
قال أبو جعفر:فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك.
--------------------------
الهوامش:
(26) قوله:"قال بثوبه على وجهه "، أي:أخذ ثوبه وحاول أن يغطي به وجهه حتى لا يراه صلى الله عليه وسلم . و "قال "حرف من اللغة ، يستخدم في معان كثيرة ، ويراد به تصوير الحركة .
انظر ما سلف 2:546 ، 547 / الأثر:5796 ج 5 ص 400 ، تعليق:1 / الأثر 12523 ج 10 ص 572 ، تعليق:1 / الأثر 17429 ، ج 14 ص:541 ، تعليق:2 .
(27) في المطبوعة:"كلام الله تعالى "، وأثبت ما في المخطوطة .
(28) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة .
(29) في المطبوعة:"وأنهم "بالواو ، وما في المخطوطة صواب جيد .
(30) الأثر:17951 - في المطبوعة:"حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة "، وهذا ليس في المخطوطة ، بل الذي فيها ما أثبته:"حدثنا قال .... حدثنا أبو أسامة "، بياض بين الكلامين وفوقه كتب "كذا "، يعني ، هكذا البياض بالأصل .
(31) في المطبوعة:"يكبونها "و "يكبون "، بالباء في الموضعين ، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما .
(32) في المطبوعة:"يكبونها "و "يكبون "، بالباء في الموضعين ، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما .
(33) "البراز "( بفتح الباء ):الفضاء البعيد الواسع ، ليس فيه شجر ولا ستر .
(34) ديوانها:109 ، من شعرها في مراثي أخيها صخر ، تقول قبله:
إنِّــي أَرِقْـتُ فبِـتُّ اللَّيْـلَ سَـاهِرَةً
كَأَنَّمَــا كٌحِــلَتْ عَيْنِــي بِعُــوَّارِ
"العوار "القذى . وقولها:"أرعى النجوم "، تراقبها ، من غلبة الهم عليها ليلا ، فهي ساهرة تأنس بتطويح البصر في السماوات . و "الأطمار "، أخلاق الثياب . تقول:طال حدادها وحزنها ، فلا تبالي أن يكون لها جديد ، فهي في خلقان ثيابها ، فإذا طال سهرها وغلبها ما غلبها ، تغطت بأطمارها فعل الحزين ، وبكت أو انطوت على أحزانها .
(35) انظر تفسير "الإسرار "فيما سلف:103 .
(36) انظر تفسير "ذات الصدور "فيما سلف 13:570 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .